قلنا ولم نزل أن الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ البشري، لم تهزم من عدو خارجي، بل هزمها فيروس داخلي، أكل بطنها، حتى إذا تعرضت لتهديد جدي من الخارج، حتى ولو كان هامشيا، تداعت وتحللت، وذهبت إلى كتب التاريخ!
في أيامنا هذه، ثمة إمبراطورية تسمى إسرائيل هي كذلك ليس بالمعنى الحرفي للمصطلح، بل نسبة لسياج الحماية التي تلتف حولها، منذ قيامها كانت تحظى برعاية منقطعة النظير، القليل مما قام به اليهود هو من أعطاها هذه الصفة الإمبراطورية، في البداية غض جنود الانتداب البريطاني على فلسطين الطرف عن نمو عصابات الهاجناة والإتسل وليحي وشتيرن وغيرها، و«تساهلوا» في عمليات تسليحها حتى أصبحت نواة جيدة لما سمي فيما بعد جيش الدفاع، قبل هذا حظيت الدولة الموعودة بوعد إمبراطوري بوطن قومي، ها نحن نعيش ذكراه المئوية، وفيما بعد تلقفت الإمبراطورية الناشئة: أمريكا المهمة، واحتضنت الحلم مع كثير من العطف الروسي (أيام الاتحاد السوفييتي!) والفرنسي والبريطاني والألماني تحديدا، وتبع هذه السلسلة من الرعاة أتباع القوى الكبرى، سواء في الغرب (بقية الدول الأوروبية)، أو الشرق (اليابان والصين) وبين إعلان قيام الدولة واستوائها على عودها، كان العالم يعطيها كل ما تستحق من حماية وحدب ورعاية سرا وعلانية، وكل الزعماء والقادة الذين فكروا ولو في أحلام اليقظة بالنيل منها، تمت إزاحتهم وإنزالهم عن الشاشة !
-2-
في المنظور القريب، لم تزل إمبراطورية بني إسرائيل في أوج عظمتها وتغولها، بعض الرعاة بدأوا يشعرون أن الغول الذي صنعوه يجب لجمه قليلا، لأنه بدأ يشكل خطرا ليس على ضحاياه العرب فقط، بل عليهم هم أنفسهم، حتى ترامب الذي يعد الإمبراطورية باستمرار الرعاية والعطف ونقل سفارته إلى القدس، قال لها صراحة بمنطق ابن السوق : يجب على إسرائيل أن تمول نفقاتها، هذه الجملة الصغيرة التي ربما لم تلفت نظر الكثيرين، هي حجر سنمار الذي ربما يهدد بناء القصر الإمبراطوري، ولا نريد هنا أن نسرف في التفاؤل بشأن قرار مجلس الأمن 2334 الذي أخرج المستوطنات من تحت عباءة الشرعية الدولية فهو مجرد قرصة أذن للمعشوقة، لكنه ذا مغزى في قادم الأيام!
-3-
الرعاة والمحبون والعشاق الذين يحبون إمبراطورية إسرائيل من طرف واحد، معنيون ببقائها خنجرا في خاصرة الشرق، كي يظل يئن وفي حالة ارتخاء حضاري، وحتى موت سريري، فشرقنا تحديدا هو ما يهدد رفاهية العالم الحر ومن الواجب الحفاظ على هذه الرفاهية، بإبقاء الشرق نائما، أو غائبا أو مغيبا، وجنود الإمبراطورية هم من يضمنون دوام هذه الحال، وحدهم جنود الإمبراطورية يعملون اليوم على تفتيتها من الداخل، كشأن كل الإمبراطوريات الكبرى، إسرائيل هي العدو الأول لإسرائيل، وهي التي ستقضي عليها، تماما كما يحدث في الطب عندما تنتحر خلايا الجسم وتقتل نفسها، وهي عملية كيميائية معقدة يصعب شرحها في مقال كهذا، بالضبط كما هي مهمة شرح التفاعلات الداخلية السياسية للإمبراطورية للقارىء، والتي ستؤدي إلى زوالها!
-4-
ما نقول ليس مخدرا لانتظار الانتحار الذاتي للغول، فقد قلنا ونعيد، أنه لا بد من عامل خارجي لمساعدة العامل الداخلي!
بالمناسبة، مؤتمر القدس سيء الصيت الذي حلم بالمستحيل، هو أحد تجليات أزمة المشروع الصهيوني الداخلية، وهو مجرد غبرة على أحذية الفلسطينيين والأردنيين، فلا بديل لفلسطين إلا فلسطين، والأردن نضج بما يكفي لكي لا يلتفت لهذه الترهات!