يبدو أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم « اليونيسكو » قد هرمت، كما شاخت منظمات أخرى تابعة للأمم المتحدة، أو ربما الأمم المتحدة ذاتها قد هرمت ووصلت سن التقاعد، وبدأ الأعضاء ينفضون من حولها، فقد بلغت من العمر 73 عاماً، وباتت نهباً للصراعات السياسية، وتلقّي التهديدات بقطع الأموال عنها إن لم تستجب لتنفيذ قرارات معينة لدولة ما، أو إذا اتخذت قرارات أخرى ليست لصالح دولة ما، وباتت منظمة الثقافة والتربية والعلوم عرضة للعجز والانفراط.
المثير في الأمر أن تلجأ دولة عظمى تُعد أقوى دولة في العالم للانسحاب منها، وتهدد بوقف التزاماتها المالية، مثل الولايات المتحدة، لا لشيء سوى لأن المنظمة وقفت موقفاً حقيقياً تجاه قضية ثقافية وتراثية وإنسانية وسياسية أيضاً بقبولها فلسطين عضواً، وكانت قبل ذلك، أي اليونيسكو، قد نددت بأنشطة قامت بها «إسرائيل» في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي وقت سابق من العام الحالي أدرجت مواقع في مدينة الخليل بالضفة الغربية المحتلة ضمن مواقع التراث العالمي كمدينة فلسطينية إسلامية. وكان من المتوقع أن تنسحب «إسرائيل» من منظمة «اليونيسكو»، لكنها قررت الانسحاب بعد انسحاب الولايات المتحدة، وهو أمر طبيعي، إذ إن الانسجام في المواقف حد التطابق يقود إلى اتخاذ قرارات واحدة ومتشابهة.
وقالت رئيسة اليونيسكو السابقة، إيرينا بوكوفا إن انسحاب الولايات المتحدة مدعاة للأسف العميق، و«خسارة لعائلة الأمم المتحدة والتعددية».
وعقب كثيرون على قرار الولايات المتحدة الانسحاب من اليونيسكو، وقال جوناثان ماركوس مراسل «بي بي سي» للشؤون الدبلوماسية، إن اليونيسكو تعد هدفاً سهلاً بالنسبة لترامب، فالمنظمة جهة متعددة الثقافات، ولها أهداف تعليمية وتنموية مثل المساواة ومحاربة الأمية والتعليم، وسينظر الكثيرون للانسحاب الأمريكي من المنظمة الدولية، باعتباره تجسيداً لشعار ترامب «أمريكا أولاً»، وقال: «إن المفارقة تكمن في أن اليونيسكو جزء من البنيان الدولي الذي ساهمت الولايات المتحدة في تشكيله عقب الحرب العالمية الثانية..».
واعتبرت حنان عشراوي، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أن القرار الذي أعلنته الولايات المتحدة، بالانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، سيؤثر سلبياً في وضع أمريكا الدولي، وقالت لمحطة «سي إن إن» الأمريكية إنه «إذا واصلت الولايات المتحدة تقديم غطاء لإفلات «إسرائيل» من العقاب، واختارت الخروج من أي منظمة تنتقد «إسرائيل» أو تحاسبها، فإن «إسرائيل» ستنجح في عزل الولايات المتحدة». وقالت إن هذه المنظمات، مثل اليونيسكو، ليست ضد «إسرائيل» ولكنها تقف ضد انتهاك القانون الدولي والمعايير الدولية.
وتهدف «اليونيسكو» بشكل رئيسي إلى «المساهمة في إحلال السلام والأمن عن طريق رفع مستوى التعاون بين دول العالم في مجالات التربية والتعليم والثقافة، لإحلال الاحترام العالمي للعدالة ولسيادة القانون ولحقوق الإنسان ومبادئ الحرية الأساسية. وتدعم اليونيسكو العديد من المشاريع كمحو الأمية والتدريب التقني وبرامج تأهيل وتدريب المعلمين، وبرامج العلوم العالمية، والمشاريع الثقافية والتاريخية، واتفاقيات التعاون العالمي للحفاظ على الحضارة العالمية والتراث الطبيعي وحماية حقوق الإنسان، إلا أن الولايات المتحدة تريد من هذه المنظمة القيام بأدوار مضادة لمبادئها الثقافية والحضارية، وتساعد المحتل «الإسرائيلي» على تهويد التراث الفلسطيني، والسطو عليه، وتكريس احتلال المسجد الأقصى أيضاً، وهي بذلك تريد من منظمة ثقافية وعلمية أن تعزز الاستعمار والاحتلال وقلب الحقائق التاريخية، وهذا ينسجم، كما يبدو، مع التوجه الصهيوني الذي يسرق التراث الفلسطيني بشكل منتظم ومعلن، وينسبه إليه».
يبدو أن بعض السياسيين يريدون تجيير المنظمات الدولية لمصالحهم الاستعمارية، وهم بذلك يلعبون دوراً غير أخلاقي، ويفرّغون المبادئ الحضارية والإنسانية من محتوياتها، ويشوهون المنظمات الدولية العاملة في هذه المجالات.
لقد وصل العالم إلى مرحلة خطيرة من استغلال الثقافة للمصالح السياسية، إذ لم يعد شيء يُقصد لذاته، لا العمل الثقافي ولا التربوي أو العلمي، ويبدو أن عبادة الله لم تعد تقصد لذاتها، وإنما لمصالح أيضاً، وذلك حين يُستغل الدين لتمرير مشاريع سياسية أو تثبيت أمر واقع. وفي ذلك، يقدم هؤلاء صورة مزورة للمبادئ والمثل والقيم الإنسانية التي يدعون إليها.
على الدول أن ترفع يدها عن المنظمات الدولية، ولا تجعل مساهماتها فيها أوراق ضغط وابتزاز، وما فعلته الولايات المتحدة يعد فضيحة تضاف إلى مواقفها المؤيدة للسياسات «الإسرائيلية» الخاطئة والعدوانية، وتريد شرعنة هذه المواقف وتدويلها، وهذا يطعن النظام العالمي الجديد في الصميم، ويبشر بفوضى عالمية، وعدم ثقة بالأمم المتحدة ومنظماتها.
لقد أعلنت الولايات المتحدة الانسحاب من اليونيسكو، لكنها سترسل فريق مراقبة إلى مقر المنظمة في باريس، فهل ستعود وتتراجع عن قرارها أمام الانتقادات الدولية؟ ربما..!