برحيل جلال الطالباني، يكون العراق، بعربه وكرده، قد فقد شخصية سياسية فذة، لعبت أدواراً أساسية في تاريخه المعاصر، وعلى امتداد ما يقرب من الخمسين عاماً … «مام جلال» لم يكن قائداً عراقياً لامعاً فحسب، بل كان زعيماً شرق أوسطياً بامتياز، عاصر جيل «الكبار» من القادة العرب، مقترباً ومبتعداً، خصماُ وحليفاً، وتتلمذت على يديه، أجيال من السياسيين العراقيين.
«أول رئيس كردي للعراق»، كان خلال العقود الأربعة الأخيرة، أحد ثلاثة اركان للحركات الوطنية الكردية في دول انتشارها الأربع ، إلى جانب مسعود البارزاني وعبد الله أوجلان … قاد تياراً «عقلانياً» منتحباً على «العروبة»، ذا ميول «اشتراكية – ديمقراطية» حداثوية منفتحة على العالم، بخلاف منافسيه الآخرين، حيث الأول، اشتهر بميله اليساري، العنفي في غالب الأحيان، عاش في المنافي وقضى السنوات العشرين الأخيرة في محسبه الحصين فوق جزيرة إيمرالي في بحر مرمرة، فيما الثاني، نما على جذع العشائرية المحافظة، والحكم «السلالي» الأكثر شوفينية و«محلية» في الغالب الأعم.
عرف كيف يدير لعبة «الوحدة والصراع» داخل البيتين الكردي والعراقي، ارتبط بعلاقة تنافسية حادة غالباً مع مسعود البارزاني، امتداداً لصراع مع والده الملا مصطفى، لكن عرف متى وكيف يجمد صراعاته معه، مثلما أتقن فن توجيه الرسائل القاسية لغريمه في أربيل، لعل أكثره قسوة تلك التي صاحبت أحداث 1996…. كما أنه لم يجد صعوبة في قتال صدام حسين غالباً ووضع يده بيده فيي بعض الأحيان… وبرغم شلالات الدم التي باعدت ما بين كرد العراق والرئيس الراحل،إلا أن «مام جلال» تحاشى التصديق على حكم الإعدام الذي أصدرته محكمة عراقية ضد صدام حسين، تاركاً المهمة لرئيس حكومته نوري المالكي.
بخلاف البارزاني الذي اختار «اللجوء الإيراني» زمن الشاه، وصلاته المعروفة مع إسرائيل، عرف «مام جلال» كيف يدير علاقاته مع حزب العمال الكردستاني «بـ كه كه»، ربما لعب البعد الجغرافي عن الحدود مع تركيا دوراً في تحديد خياراته، وربما كان لإقامة الرجلين المتزامنة في دمشق أثراً في تحسير الفجوات بينهما، في حين لم يتورع البارزاني عن التواطؤ مع تركيا ضد رفاق الخندق الواحد والدم الواحد، كما لم يتورع عن الاستقواء بصدام حسين، في مواجهة زحف الطالباني على أربيل، بل ووصف «ديكتاتور العراق الأشهر» ذات مرة، بأنه مخلص الكرد ومنقذهم.
استطال به العمر، ليرى حزبه الذي رعاه على نحو «أبوي» منذ تأسيسه، وقد بات عرضة للتشقق والانقسام … ففي حين انبثقت من رحمه حركة «كوران»، التي زاحمته على التمثيل في معقله الرئيس، تقول الأنباء، أن متوالية الانقسام لن تقف عند هذا الحد، بل ستشهد المزيد من الانشقاقات المقبلة على وقع الانتخابات … تلكم أخبار سارة بلا شك، لمسعود البارزاني الذي يجهد في ترميم وتجديد زعامته للإقليم بعد أن أصابتها «الطعون» بشرعيتها، والاتهامات بفسادها وميلها لإعادة انتاج ثالث التمديد والتجديد والتوريث، غير المقدس.
في توقيت رحيل رجل الحوار ومد الجسور، تكتمل خسارة الإقليم والعراق على حد سواء … لو ان الطالباني كان في كامل وعيه ونشاطه، لما أمكن للبارزني التفرد بقرار الاستفتاء … واليوم برحيله في هذا التوقيت الصعب، فقد الإقليم رجلاً ذا مكانة وازنة لدى جميع العراقيين، وفقد العراقيون، شريكاً كان بمقدوره تجنيب الطرفين، أصعب الخيارات وأكثرها سوءاً كتلك التي تطل برأسها هذه الأيام من المناطق المتنازعة.
بخلاف البارزاني، ارتبط «مام جلال» بعلاقات وطيدة مع الحركة الوطنية الفلسطينية ومع اليسار العربي عموماً، وحزبه ما زال مواظباً على إدامة هذه العلاقات، برغم تبدل الظروف واختلاف الأولويات وعمق التحولات … فيما العلاقة مع إسرائيل ارتبطت منذ ستينيات القرن الفائت بقيادة البارزاني، الأب والأبن … وبهذا المعنى، يمكن القول أن خسارة الطالباني، هي خسارة للفلسطينيين كذلك.
الأردن يحتفظ بعلاقات جيدة مع مختلف تيارات الحركة الوطنية الكردية، والرئيس جلال طالباني لطالما حلّ ضيفاً على الملك الراحل والملك عبد الله الثاني، وسبق أن تلقى العلاج في الأجنحة الملكية في مدينة الحسين الطبية، لكن الأردن يخشى تداعيات انفصال الإقليم على مستقبل العراق والمنطقة برمتها، ولذلك فقد تعامل بحذر مع قضية الاستفتاء، فلم يدخل طرفاً في السجال ضده، ولم يسجل تأييداً له، معلناً كان أم مضمرا.