كلما تحدثت أو كتبت عن حكومة قطر وسياساتها العدائية، التي قوضت الأمن والاستقرار في المنطقة، قفز من الظلامِ شخصٌ يعترض ويستنكر ويندد، ليس بحكومة قطر وإنما بي أنا؛ بحجج غريبة مريبة، منها أنني بهذا الحديث أُذكي الفتنة! أو لأنني أخوض في نزاعٍ بين الحكَّام لا علاقة للشعوب به! أو لكوني أصرف الرأي العام عن هموم المواطن، وغيرها من الحجج الواهنة التي يحاول بعض أولئك التُستر بها! (قلت «بعض» لأن هناك من يردد هذا الكلام جهلاً ومن دون إدراكٍ لدلالاته ومآلاته) وكلهم يتفقون على ترديد عبارة «فكونا من قطر»!
قليل من الأسئلة المُركَّزة كفيلة بمعرفة الأسباب الحقيقية لحنقهم واعتراضهم، وكشف نياتهم الخبيثة، أو المريضة في أفضل الأحوال. كنت في البداية أتعجب من كلامهم، حتى عرفت السبب، فانقلب عجبي أسفاً على أحوالهم، وشفقةً عليهم من أنفسهم!
من أولئك المخذلّين والمتخاذلين من لديه أجندات أو توجهات آيديولوجية (فكرية) وسياسية مشبوهة، تعرفهم بتحجيم كل إنجاز وطني، وتعظيم التحديات والإشكالات، وذم رموز الوطن أو الإحجام عن الثناء عليهم، وتمجيد رموز الدول الأخرى والأحزاب والجماعات والدفاع عنهم. بالتأكيد لا أقول إن الثناء على رموز الوطن واجب وطني، أو أن عدم الثناء عليهم يعني بالضرورة ذمهم، فالقاعدة تقول لا ينسب إلى ساكتٍ قول، ولكن عندما يمتلئ حساب أحدهم في مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات المديح والثناء لرموز دولةٍ ما ومسؤوليها (يخطر في ذهني الآن تركيا)، ويواجه غضبة الرأي العام عند تبريره تصرفاتهم الموغلة في السوء، فضلاً عن الخاطئة، وفي المقابل يخلو حسابه من أي ذكرٍ لرموز وطنه إلا على سبيل الهمز واللمز والإساءة (لا أنسى إساءة أحدهم إلى الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، حين ظهر بعد جراحة أُجريت له، في محفلٍ دولي) فما معنى هذا؟ قد يتطلب الأمر استحضار قاعدة أخرى مقيدة للقاعدة الأولى، تقول: السكوت في معرض الحاجة إلى بيان، بيان!
ويتبع ذوي الأجندات والتوجهات المشبوهة؛ المتأثرون بالدعايات الحركية، كالدعاية الإخوانية التي تعمد إلى صبغ أي نزاع سياسي تخوضه الجماعة أو الدول الحاضنة أو الداعمة لها بالصبغة الآيديولوجية، ومن ذلك تكريس صورة نمطية مفادها أن معاداة تركيا ومصر، خلال عهد مرسي وجماعة الإخوان هي معاداة للإسلام، ووصم خصوم تلك الدول، والجماعة بالمصطلحات والنعوت المنفَّرة في مجتمعنا كـ«العلمانية، والليبرالية، ووعاظ السلاطين» وغيرها. وأستغرب كيف تنطلي على أولئك مثل هذه الحيل التي لا يتطلب الكشف عنها كثيراً من الجهد؟ وبلغة القانون؛ قد يصلح استخدام معيار الشخص الأقل من عادي لقيام مسؤولية أولئك، ليس أمام القضاء، وإنما أمام عقولهم وضمائرهم.
ومنهم أيضاً طائفة المُستأجَرين بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وتشمل المرتزقة الذين زاد نشاطهم الإعلامي، أخيراً، في شكلٍ ملحوظ، وكذلك الذين لديهم لبسٌ في فهم الإحسان، فهم يعتبرون التصريح بالوقوف مع وطنهم أو مع الحق – إن لم يكونوا مواطنين – نكرانٌ للإحسان الذي تلقوه من حكومة قطر، ما جعلهم يؤثرون الوقوف على الحياد! وهم في كل الأحوال مستأجرون؛ لأن حكومة قطر لم تحسن إليهم إلا لهذا، لتضمن وقوفهم معها أو عدم وقوفهم ضدها على الأقل!
ويتأرجح خطاب المخذلين والمتخاذلين بين الاصطفاف المكشوف مع حكومة قطر وبين الاصطفاف المتواري خلف ادعاءات إذكاء الفتنة، وصرف الرأي العام عن شواغل المواطنين وغيرها من الادعاءات! ولا أنسى أن نفراً منهم كانوا بالأمس يخطئون علماءنا الذين وصفوا ثورات الربيع العربي بـ«الفتنة»، بل إن منهم من شنَّع على أولئك العلماء الأفاضل وطفق يتلو فيهم {ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطةٌ بالكافرين}، ولكن عندما مالت الدائرة عليهم وأصبحت مصالحهم السياسية والحزبية في خطر، لجؤوا إلى وصف ما يحدث بـ«الفتنة»! وهذا يدفعنا إلى القول إن الفتنة وغيرها من المصطلحات والمفاهيم بل والأحكام الشرعية في بعض الأحيان؛ عندهم محكومة بمصالحهم السياسية والحزبية، ولديهم جرأة عجيبة على اقتحام فقه المناط، بخلاف الراسخين في العلم الذين يتناولونه بحذر وورع شديدين، وربما اقتفوا أثر مالك في جُنّة العالِم وهي قول «لا أدري»!
خائنٌ من يصطف مع الأعداء ضد وطنه، أقرب إلى الخيانة من يقف على الحياد ووطنه يخوض حرباً أو نزاعاً سياسياً ضد من يحيك له المؤامرات ويتربص به الدوائر! ذليلٌ مستعبد من يبني عزّاً على أنقاض ولائهِ لوطنه وكرامته، جاهلٌ من يظن أن الوطن حفنة مالٍ إن أُعطي منها رضي عليه وإن لم يُعطَ سخط منه! وأجهل منه من يحجبه إحسان الأعداء عن الوقوف مع وطنه ضدهم، وكذلك من يروَّج – بجهالة – الفكرة التي تقول إن النزاع الدائر هو نزاعٌ بين الحكام ليس للشعوب علاقة به. أما من يروج ذلك عن قصد فهو خائنٌ بالثلاث! للمناسبة، ليس هناك أي مانع يحول دون المطالبة بالحقوق المقررة شرعاً ونظاماً، والنقد الهادف والبناء لأداء الأجهزة الحكومية من جهة؛ والوقوف مع الوطن والرد على المزاعم والادعاءات التي توجه إليه بغرض الإساءة من جهة أخرى! بل إن ذلك من حرية التعبير المحمية بموجب أنظمة المملكة، وهذا ما يُرى جلياً في وسائل الإعلام السعودية ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكن هناك من يتستر بادعاء هموم وشواغل المواطنين لصرف الأقلام والأنظار عن قطر وسياساتها العدائية.
المتضرر الحقيقي من هذه المواقف السلبية ليس الوطن، بل أصحابها، فهذا الوطن منذ قيامه على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ورجاله الأوفياء؛ حتى يومنا هذا، لم يتأثر بخذلان أو عدوان، بل بقي صامداً شامخاً بقيمهِ الراسخة التي تتسنمها الشريعة الإسلامية، وبأحبائهِ الذين سقوا أرضه الطاهرة بدمائهم، وشبَّوا وشابوا على خدمة مقدساته، ونهضته وعمرانه.