إثر التداعيات الخطيرة لثورات «الربيع العربي» بدأ الحديث عن تغيير وتعديل خارطة الشرق الأوسط، خاصة المنطقة العربية يأخذ أبعاداً جدية بالنظر إلى طبيعة الصراع الدائر في تلك المنطقة، ورسمت العديد من الخرائط والأفكار والسيناريوهات حول تقسيم الوطن العربي إلى دويلات تحمل العناصر الطائفية والقومية، والواقع أننا لسنا بحاجة إلى استقراء المستقبل لنؤكد أن هذه الخرائط باتت أكثر واقعية إذا ما طالعنا هذه الخارطة الواقعية في الوقت الحالي، إذ ان هناك تقسيماً فعلياً، لم يأخذ طابع الاستقرار بعد، لكن ذلك لا يعني أنه موجود فعلاً.
والواضح أن راسمي هذه الخرائط، اعتبروا أن الغرب الاستعماري وراء هذه الخارطة وهذا التقسيم الذي يعيد تقسيم خارطة «سايكس بيكو» غير أن مؤامرات الغرب، حول هذا التقسيم، يبدو أنها انقلبت عليه، وبمعنى آخر، إذا كان التقسيم على الخارطة العربية قد حدث ويحدث على أساس سياسي طائفي جغرافي، فإن هناك خريطة من نوع آخر، باتت معالمها أكثر وضوحاً، تم رسمها دون إرادة أصحابها، تخص القارة العجوز ـ أوروبا، خريطة ذات أبعاد ثقافية ـ اجتماعية ـ اقتصادية، تهدد الموروث التقليدي لهذه القارة التي تغذت واستمرت ونهضت بفعل سياستها الاستعمارية، وكأن السحر يرتد على الساحر، فالقارة الأوروبية باتت على مشارف متغيرات بنيوية سكانية، ستشكل خارطتها ذات الأبعاد الاجتماعية الجديدة، على ضوء «موسم الهجرة إلى الشمال» والتدفق اللامتناهي بالملايين من العرب والأكراد والأفارقة والأفغان الذين فاضت بهم أمواج «المتوسط» ليصلوا أحياءً أو أمواتاً الى سواحل القارة العجوز!
الإنجاز التاريخي الذي حققته أوروبا لنفسها، نجاحها في توحيد دولها في «الاتحاد الأوروبي» ووصولها إلى درجة لا بأس بها من التنسيق العالي بين هذه الدول، والتوصل إلى اتفاقات تزيد من تأثيرها على الساحة الدولية، كالعملة الأوروبية واتفاقيتي «شينغن ودبلن» حول انتقال المواطنين الأوروبيين وضيوفهم داخل دول الاتحاد، هناك انقسامات عديدة حول الكثير من الأمور، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، لكننا رأينا كيف توحدت لإنقاذ اليونان من الإفلاس.. هذا الإنجاز يبدو أن عوامل تبديده بدأت تظهر على السطح مع سيل الهجرة إلى القارة، والتشكيك بفعالية الاتفاقات، خاصة تلك المتعلقة بحرية حركة الأفراد، بات يهيمن على أداء عدة دول في أوروبا، بفعل الموقف من استقبال واستقراء هذا التدفق غير المسبوق للاجئين، بعض الدول على غرار «المجر» اتخذت موقفاً صلباً، عنصرياً وطائفياً، عندما رفضت استقبال المهاجرين، ثم «تطوعت» باستقبال بعض «المسيحيين» منهم، ثم اتخذت موقفاً بتمرير المهاجرين إلى دول أخرى كالنمسا ومنها إلى ألمانيا، كما ان هناك خلافاً على «الحصص» حتى بين الدول التي تطوعت باستقبال المهاجرين.
والخلاف على الحصص، له منشأ غير وحدوي بين دول الاتحاد الأوروبي، فقبل الموجة الحالية من الهجرة، كانت ايطاليا هي الملاذ الأقرب لهجرات الأفارقة تحديداً، لم تسمع معظم الدول الأوروبية إلى صرخات ايطاليا، بضرورة تحمل دول الاتحاد الأوروبي المسؤولية عن هؤلاء المهاجرين معها، وتركوها وحدها تعاني من هذه المسألة، ولم يكن بوسع دول أوروبية أخرى أن تتصور مآلات تدفقات الهجرة التي تحولت إلى شرق أوروبا عبر اليونان ومقدونيا، حيث بدأ الحديث عن تقاسم الحصص.
تفاوت المواقف بين دول الاتحاد الأوروبي، لا يعود بالدرجة الأساسية إلى أسباب سياسية بحتة، ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذه المواقف التي رحبت بالمهاجرين لأسباب أخلاقية وإنسانية أساسا، تم فرضها على ساسة الدول من قبل مواطني هذه الدول، أي ان قيادة دول الاتحاد الأوروبي، خضعت لمواقف الرأي العام الأوروبي وليس نتيجة مواقف سياسية مدروسة بدقة، وهنا لا بد من التأكيد على أهمية مواقف الرأي العام في الدول الديمقراطية، ومدى تأثيره في اتخاذ القرارات، بل مشاركة في اتخاذ القرار، وما موقف معظم دول الاتحاد الأوروبي المرحب بالمهاجرين، وتجاهل الآثار السلبية المحتملة على هذه المجتمعات إلاّ إشارة واضحة أن الرأي العام، في الدول ذات النظام الديمقراطي، هو الذي يقرر في كثير من الأحيان.
يقول البعض إن أوروبا تدفع ثمن موقفها من الحروب في المنطقة العربية، ليس فقط لأنها لم تتدخل جدياً لتشارك فعلياً في الحرب على الإرهاب، بل لأنها ساعدت في استشراء هذا الإرهاب، إذا لم تكن شريكة في إيجاده، وربما تدفع أوروبا ثمن المواقف الأميركية تحديداً بهذا الخصوص التي صنعت «داعش» وباقي تفرعاتها من خلال دعم بعض دول الخليج العربي التي مولت ونظمت هذه الفصائل الإرهابية، بهدف «نشر الديمقراطية» وتغيير الأنظمة وفقاً لمصالحها الدنيئة، الأمر الذي يثير السخرية بنفس القدر الذي تسيل معه دماء الضحايا، أحياءً وأمواتا.
إن الموقف الإنساني والأخلاقي لشعوب الديمقراطيات الأوروبية، رغم مواقف تلك الدول سياسياً من مختلف قضايا العرب، من المتوقع أن يزيد من حالة النقاش حول الأبعاد الحقيقية التي تشكل هذه المواقف، هل الدين، أم التقاليد والأعراف الإنسانية، ولعل جموع المهاجرين، هم أول وآخر من يحكم على مثل هذا الأمر!!
نقلا عن صحيفة الأيام الفلسطينية