نون والقلم

عودة إلى لعبة حافة الهاوية

مضى وقت طويل دون أن يشاهد العالم مباراة جديدة في لعبة الاندفاع إلى حافة الهاوية. المواجهة الأشهر تاريخياً كانت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ووصلت إلى ذروة إثارتها عام 1962 خلال ما عرف باسم أزمة الصواريخ الكورية. وقتها حبس العالم أنفاسه انتظاراً لمن يضغط أولاً على الزر النووي معلناً فناء البشرية.

منذ ذلك الوقت جرب مغامرون كثيرون حظوظهم في خوض مثل هذه المباراة الخطرة، وإن بقيت المواجهات كلها أقل أهمية وخطورة وشهرة من معركة العملاقين النوويين.

أحدث هذه المباريات تجري وقائعها حالياً بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، ونتيجتها المؤكدة تقريباً أنها لن تنتهي بالحرب. ترامب ليس الرئيس المتهور كما يصفه خصومه. وليس بوسعه تحدي أو تجاهل المؤسسات السياسية والدفاعية في بلده، وكلها تعتبر الحرب خياراً غير مطروح، ولا يمكن تحمل عواقبه الكارثية حتى لو تم التلويح به.

على الجانب الآخر فإن «كيم جونج اون» رئيس كوريا الشمالية ليس ذلك الشاب المجنون الذي يتحدث عنه الإعلام الغربي حتى لو بدت بعض تصرفاته غير مفهومة. يلعب كيم لعبة خطرة بالفعل، لكنها تظل مخاطرة محسوبة وليست مغامرة طائشة. وليس صحيحاً ما قالته نيكي هايلي المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة إنه يستجدي الحرب. كيم لا يريد الحرب ولا يقدر عليها.

للزعيم الشيوعي الشاب أهداف ثلاثة رئيسية من التصعيد الحالي مع عدوه الأمريكي. الأول داخلياً وهو ترسيخ مكانته كبطل قومي حقق إنجازاً هائلاً هو تطوير القدرات العسكرية النووية والتصدي للإمبريالية الأمريكية.

السبب الثاني هو أن النظام في كوريا الشمالية سواء في وجود كيم أو غيره يشعر بقلق حقيقي إزاء نوايا أمريكا. ولا يمكنه تجاهل ترسانة هائلة من أسلحتها و28 ألفاً من جنودها على حدوده الجنوبية. لذلك فإن امتلاك قوة ردع نووية مسألة حياة أو موت لأي نظام في الشطر الشمالي. وكان الرئيس الروسي بوتين محقاً عندما قال إن الكوريين الشماليين مستعدون لأكل العشب ولن يتخلوا عن تجاربهم النووية ما داموا لا يشعرون بالأمان.

ولكيم سبب شخصي للقلق وهو أن يلقى مصير صدام والقذافي، وكلاهما أطاح به الغرب حتى بعد تجريده من أسلحة الدمار الشامل.

السبب الثالث لإصرار كوريا الشمالية على استفزاز أمريكا بالتجارب النووية هو أنها لا تجد أسلوباً غير ذلك لطرح وتحريك قضيتها، وإجبار واشنطن على التفاوض معها لإنهاء عزلتها ورفع العقوبات. لا يوجد لدى كوريا ما تخسره، وورقتها الوحيدة للمساومة هي التجارب النووية التي ستقبل بوقفها مقابل إعادتها إلى المجتمع الدولي وتلبية مطالبها السياسية والاقتصادية.

يفسر هذا الطبيعة الحذرة للاستفزازات الكورية، ولماذا توصف بأنها مخاطرة محسوبة. بمعنى أنها تستهدف إغضاب أمريكا ولكن لا تهددها بالفعل ولا تعتدي على مصالحها. تحترم كوريا الشمالية هذه الخطوط الحمراء ولا تقترب منها. وبطبيعة الحال تلاحظ واشنطن ذلك، وتدرك أيضاً المرامي الكورية من الاستفزازات وليست الاعتداءات.

وإذا كانت الحرب مستبعدة من جانب الإدارة الأمريكية فإن البدائل الأخرى أمامها تبقى محدودة: العقوبات لم تعد تجدي. ومقاطعة الدول المتعاملة مع كوريا الشمالية غير ممكنة عملياً لأن90% من تجارتها مع الصين. بينما مقاطعة واشنطن للصين اقتصادياً شبه مستحيلة.

لا يبقى أمام ترامب سوى التفاوض. غير أنه لا يستطيع الصمود أمام المتشددين في حزبه وإدارته والذين يطالبون بتغيير السلوك الكوري أولاً. كما أن أي اتفاق معها سيعتبرونه تنازلاً غير مقبول كما كان الحال مع الاتفاق النووي مع إيران.

غني عن القول هنا أن المباحثات مع كوريا الشمالية ستتجاوز مسألة امتلاكها أسلحة نووية وهو ما بات حقاً مكتسباً غير قابل للتفاوض. المطروح حالياً هو وقف التجارب النووية، والامتناع عن تطوير أو إنتاج أسلحة جديدة وليس تجريدها من قدراتها النووية. هذه مرحلة تجاوزها الزمن، ويبدو أنه ليس أمام واشنطن سوى الاعتراف بالأمر الواقع، وقبول كوريا الشمالية عضواً دائماً في النادي النووي العالمي.

 نقلا عن صحيفة الخليج

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى