أشعر بالحنق كثيراً عندما يتبجح أحدهم بالقول إن السرقة واحدة؛ أن تسرق ريالاً أو أن تسرق ملياراً فكلاهما جريمة متساوية. هذا نفاق واضح واستهانة بالبشر والناس، فليس من المنطق أن من يسرق ريالاً ليشتري خبزاً لأطفاله كمن يسرق ملياراً ليشتري مرتزقة وأبواقاً وضمائر، وأحياناً لا يشتري بل يكنزها حتى يموت.
كنا مجموعة من الأصدقاء نتحدث عن الخيانة الزوجية، وأجمعنا على أن الخيانة واحدة، إلا واحداً منا، وهو أكبر سناً وحكمة، فقال إن الذين ينتهكون القيم إجمالا ليسواً أصابع واحدة، وردة الفعل تجاههم تختلف، فمثلاً هناك من خان مرة واحدة في ظروف متكالبة وصعبة، وهو وحيد، ومع ذلك كتم الأمر حتى عن نفسه. وهناك من يعملها لكنه يحرص أشد الحرص على ألا تعلم زوجته، فهو لا يعرف ماذا يقول لها لو اكتشفت، والأسوأ هو الذي يعملها غير آبه إذا عرفت زوجته أم لا، لكنه يعرف طبعاً عن أنه كان مخطئاً، إنما الأسوأ على الإطلاق هو ذلك الذي يعملها ويكاد أن يعلنها ويقول: «نعم ومن حقي»، بكل صفاقة، رامياً بمشاعر زوجته عرض الحائط. وعلى هذا المنوال تستطيع أن تطبق المثال السابق على كثير من القيم، كالكرم والشجاعة والوفاء وغيرها.
قصة الكاتب الروسي أنطون تشيخوف، التي صنفت بأنها أفضل قصة قصيرة في العالم، عن رب المنزل الذي يستدعي العاملة ومرتبها 40 روبلاً في الشهر، ثم يفاوضها بالسعر حتى ينزل بها إلى الـ11 روبلاً عن شهرين كاملين، وهي تشهق بين دموعها حزناً، ثم تقبض النقود وتهمس له بالشكر، فينفجر عليها غضباً قائلاً: «تشكرينني على ماذا؟ فانا نهبتك وسلبتك»، مضيفاً: «إن حقك 80 روبلاً، فلما لا تدافعين عنه؟» فقالت: لأن هناك آخرين لا يدفعون، فقال: «هذا ليس مبرراً، إنه حقك»، المغزى من القصة أن رب المنزل هنا رجل ذو قيم، وكان يستطيع استغلالها أبشع استغلال، لكنه أراد أن ينبهها وأن يلقنها درساً في الدفاع عن حقوقها. وفي المقابل من يسرقون قوت العاملات والعمال، وهؤلاء هم المجرمون الذي لا تغتفر خطاياهم.
قبل أن أعمل في لندن، وأثناء عملي بها وبعد عودتي منها كنت أسمع، ثم تعرفت على مواطن عراقي هارب من بطش صدام حسين، اسمه عبدالإله توفيق، هو أشبه بالأساطير التي تنقرض، بل لا تتكرر إلا كل قرن، فقد كان الرجل يستقبل العراقيين والعرب الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، ويساعدهم في بدايات استقرارهم حتى لو خسر من أمواله الضئيلة، وعندما طلق زوجته الإنكليزية وانتهى كل شيء وعلم لاحقاً أنها في أزمة باع عقاراً وحيداً يملكه وأرسل إليها ثمنه، أما الذي لم أصدقه، لكنه حقيقة، هو أنه ذات مرة عندما كان متزوجاً أتى إليه أحد الأصدقاء الخليجيين، ويبدو أنه استشف من حديث الخليجي أنه يريد شراء تلفزيون، إلا أنه أجل الأمر بسبب الافتقار إلى المال، وفوجئت زوجته بأنه يحمل التلفزيون الوحيد بالمنزل في الصباح الباكر ويذهب به إلى شقة الخليجي، ويطرق عليه الباب، وعندما فتح الأخير متذمراً ممن أيقظه من النوم وجد عبدالإله، ومعه التلفزيون، فغضب وأقفل الباب في وجهه، لكن عبدالإله انتظر حتى يستيقظ الرجل من نومه ثم يعطيه التلفزيون ويمضي، فيما كانت زوجته السابقة تغلي من الغضب، واتضح لاحقاً أن أسباب طلاقهما هو تبرمها من اهتمامه بالآخرين حتى على حساب العائلة.
أصابع اليد لا تتشابه، والأخيار لا يتساوون، وبالمثل الفاسدون؛ يجب ألا يكون التعامل معهم من خلال النظرة نفسها، مع الإيمان بأن الفساد نفسه مرفوض.