اخترنا لكنون والقلم

عن مصر التي يحلفون بترابها ودستورها

أسمع عن تعديل الدستور منذ كنت تلميذاً في مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية. كانت التظاهرات جزءاً من منظومة تدريبنا السياسي، نتظاهر محتجين على نية لدى الحكومة، أو القصر الملكي تعديل الدستور، ونتظاهر مطالبين بجلاء الإنجليز واسترداد الاستقلال الوطني. تظاهرنا احتجاجاً على فساد الملك وحاشيته، وتظاهرنا تنديداً بتجاوزات الشرطة. ما ضاع علينا من ساعات تعليم كان يعوضها اتفاق إدارة المدرسة مع أولياء الأمور، ومع النشطاء من قادة التظاهرات على تنظيم فصول في نهاية اليوم الدراسي. تخرجنا وفي قلوبنا حب الديمقراطية وإن ناقصة، وفي نيتنا أن نعمل على استكمالها، وأن نمارس مبادئها في نوادينا، وجمعياتنا، وتجمعاتنا الشبابية، وفي علاقاتنا العائلية، وأن نلتزمها في مستقبل حياتنا.
في مرحلة الشباب لم نكن غافلين عن مشكلات الحكم والمجتمع في مصر، وأسبابها، وفي مقدمة هذه الأسباب الهزيمة العسكرية في فلسطين، وآثارها السياسية والاجتماعية في مصر. هناك في فلسطين، وهنا في جامعات مصر ومدارسها، غرست وترعرعت فكرة أن النخبة السياسية الحاكمة في مصر ممثلة في القصر والأحزاب، غير صالحة للبقاء.
ترعرعت فكرة ثانية أخطر في تداعيات اعتناقها، وأشد في قوتها التدميرية، فكرة عاشت معنا إلى يومنا هذا بعد أن وجدت من يفلسفها، ويعيد جذورها إلى تربة الفراعنة، ثم يعود فينسبها إلى عقائد، وأديان أحدث من أديان مصر القديمة. نسبوها أيضاً إلى مفكرين من أمثال توماس هوبز، وقادة ماركسيين، ونازيين، وقوميين، وإلى منظّري الليبرالية الجديدة والفاشية المتجددة دوماً، وصانعي وحماة موجة الإسلام الجديد المتشدد، وجماعات الإرهاب الديني. أما الفكرة فتوجزها عبارة أن هناك شعوباً لا تصلح للديمقراطية، وأن شعب مصر نموذج لهذه الشعوب التي لا تصلح للديمقراطية.
أعترف بأنني أشعر بالإهانة في كل مرة أسمع فيها مندوباً عن النخبة السياسية يحاول أن يفرض على شعب مصر، خاصة على الأجيال الشابة فيه، اقتناعه الشخصي بأننا شعب لا يصلح للديمقراطية. أعرف عن نفسي أنني أصلح. أمارسها في حياتي الخاصة، وفي دوائر عملي، وفي علاقاتي الاجتماعية، ولم يقع ضرر. مارستها كزائر أجنبي بإقامة طويلة في بلاد تمارس الديمقراطية، تآلفنا، وامتزجنا، وتمازجنا في احترام متبادل، ووقعنا في حب وتقدير أحدنا للآخر، ولم يقع ضرر.
قضيت من الوقت ما استطعت توفيره لأراقب أبنائي، وأحفادي، كيف يتصرفون في بلاد أجنبية، راقبت تصرفاتهم في بلاد تمارس الديمقراطية، وبلاد حرمها حكامها من الديمقراطية. سمعت في واحدة حاد بها حكامها عن مسيرة الديمقراطية حجة أن الشعب لم يعرف كيف يقضي على الفساد، وسمعت في أخرى أنه فشل في استعادة جزر المالفيناس من السيادة البريطانية، أو ترك النشطاء اليساريين يخططون ليعيثوا في البلاد تخريباً. عاش بعض آخر من هؤلاء الأولاد والأحفاد سنوات النشأة في بلاد تمارس الديمقراطية، وبعض آخر عاش فيها سنوات المراهقة، وبعض ثالث عاش في الخارج كل هذه المراحل، ولم يقع ضرر. بل أفلح الجميع، أفلحت الحكومات، وأفلح الأولاد والأحفاد. عاد منهم من عاد إلى وطنه ليقال له أنت وملايين من المصريين أمثالك لا تصلحون للديمقراطية.
أشعر بالإهانة حين يصفون هذا النفر العظيم من أولادي وأحفادي بأنهم جميعاً، وأنا على رأسهم، لا نصلح للديمقراطية.
عشت طالباً بين طلاب مصريين وعرب في جامعة مصرية. كنا جميعاً نصلح للديمقراطية. مارسناها في انتخابات الطلبة، ومارسها معنا أساتذة محترمون، وبعضهم له مكانته العلمية العالية في جامعات الخارج. خرجنا فاختلطنا بشباب يمارس الديمقراطية في النقابات العمالية وفي الأحزاب، فلم نجد صعوبة في الاختلاط وإقامة علاقات.. لم أتعرض لإهانة، ولم يقلل أحد من قيمة ما أعرف، وأهمية ما تعلمت، لم يصدمني أحد باتهامي أنني لا أصلح إلا عندما عدت إلى وطني لأجد نفسي واحداَ من ملايين صدر في شأنهم مرسوم، بأنهم لا يصلحون للديمقراطية.
لا أفهم أن تكون جماعة، نشأت في بيئة ذات طبيعة سلطوية فتفرض على شعب طبيعتها، وتحرمه من التمتع بحقوق وحريات لأنها حرمت منها. لا أمانع ولا أعترض، وليس من حقي، أو من حق أي مؤسسة أخرى أن نفرض على مؤسسة داخل دولة أن تصدر قراراتها الداخلية بالاقتراع العام، أو أن يمارس أفرادها حق التظاهر، لكنني وملايين، بل ربما مليارات في شتى أنحاء العالم نتمنى على قادة هذه الجهات إذا حدث وتولت مسؤولية الحكم أن تحتفظ للشعب بحقوقه الطبيعية، يمارسها في حرية واعتدال. كلها تحلف يمين احترام نصوص الدستور وروحه، وكلها، باستثناءات قليلة، تأففت وتململت من تعاليم الديمقراطية والقيود التي فرضها عليها قسم الولاء للوطن ودستوره. كلها، باستثناءات قليلة، اتهمت الشعب بأنه الطرف غير الصالح للديمقراطية.
تعديل الدستور، موضوع النقاش الدائر حالياً، لن يفيد القضية الديمقراطية التي هي، وبحق ومهما طال الزمن وتعقدت المشاكل، أمّ القضايا. التعديلات المماثلة التي أدخلت على الدساتير في العهود السابقة لم تفد الديمقراطية، ولا التنمية ولا أمن البلاد والعباد في شيء كثيراً أو قليلاً. ربما لو ارتبط تعديل منها بالتزام تشجيع قيام أحزاب سياسية مستقلة وحركة نقابية قوية ومنضبطة وجمعيات ومنظمات مجتمع مدني حر ومستقل عن الدولة، لكن متعاون بحرية كاملة مع مؤسساتها وصحافة مستقلة وملتزمة ومسؤولة وسلطة تشريعية فاعلة ولائقة، وقانون هو السيد في أرجاء البلاد، أقول لو أن أحد تلك التعديلات الدستورية صدر مقترناً ببرنامج إصلاح سياسي جاد وحقيقي لربما كنا نعيش الآن شعباً مرفوع الرأس بين الشعوب الحرة.
}}}
تعالوا نشهد العالم أننا وضعنا دستوراً والتزمناه، وأثبتنا أننا أمة لا عيب خلقياً فيها، ولا نقص شديداً في الوعي والتجربة، أمة تريد الحرية وتصلح للديمقراطية حتى في أعتى ظروف الضرورة.

نقلا عن صحيفة الخليج

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى