الرغيف قمر الفقراء. الليل عتمة مضيئة للأثرياء، حالكة لكل من ليس في سمائه قمر. ثمة من يسرق الأقمار. يخبئها في خزانة من حديد، وثمة من يحرق حقول القمح بالأسلحة المحرمة دولياً. نعم ثمة أسلحة مباحة دولياً، لكأن الإنسان أباح قتل الإنسان. لم تعد الحروب بين الخير والشر بل بين الين والروبل والدولار، والصراع ليس على لقمة خبز بل على أطنان من جنون العظمة والتيجان المذهبة. فيما الكل يدرك أن نهايته كومة عظام في مقبرة وتاجه قطعة معدن في متحف قد لا تجد من يشتريها.
الأرض تكفي ساكنيها لكن لم يعد عليها حب يكفي ويفي بحاجة الإنسان ليتمتع بشروق الشمس ومغيبها، ولا بغصن ينبت على شجرة هرمة فيواصل بصمت عطاء الشجر للبشر، تفاح وبرتقال ومانجا وتين وزيتون ووووو..
روتشيلد أغنى أغنياء العالم مات من الجوع، وقصة موته المعروفة عبرة لعبدة المال وتجار الحروب واستعباد البشر. كان الرجل مولعاً بالتعبد لأمواله والتلذذ بها والنظر إليها. بنى قصراً في جهة نائية وبنى به خزانة هائلة ورتب مجوهراته من ياقوت وزمرد ولؤلؤ ولآلى نادرة.
وكان لا يحلو له تناول الطعام إلا وحوله مقتنياته وكان لها ضوء يخطف الأبصار. فكان لذلك يبقى بجوار الخزانة أياماً ثم يعود إلى أهله ولا يكشف سره لأحد. وذات مرة ذهب إلى الخزانة ولم يعد أبداً وباءت كل محاولات البحث عنه بالفشل. وورث ذووه ثروته وخص أحد الورثة بذلك القصر النائي. وبينما كانوا يهدمون القصر لإعادة بنائه، عثروا على الخزانة وعند هدمها عثروا على مفاجأة عقدت ألسنتهم من الدهشة وصارت حديث الناس فترة طويله من الزمان.
وجدوا جمجمة روتشيلد وبجوارها عظامه وثروة من اللآلئ تخطف الأبصار ووجدوا ورقة مكتوب عليها بالدم (أغنى أغنياء العالم يموت جوعاً)! أما سر ما حدث فهو أن الخزانة كانت تغلق من جانب واحد.
ولقد حدث أن دخل الرجل ونسي مفتاح الخزانة من الخارج بعد أن أغلقها وبعد أن فرغ من طعامه أمام اللآلئ وأراد الخروج تذكر أن المفتاح بالخارج، وأدرك مصيره وحاول الصراخ ولكن ليس من مجيب. إلى أن مات جوعاً وبجواره ثروته التي لا تقدر بمال بعد أن جرح نفسه وكتب عبارته لتكون عظة لمن اتعظ وعبرة لمن اعتبر!
نحن العرب كنا أحد ضحايا ثروة روتشيلد التي قتلته. إذ كان شخصية مركزية في استعمار فلسطين، فقد قدّم 30 ألف دونم من الأراضي التي امتلكها بمنطقة قيسارية الساحلية، «هدية» لدولة الاحتلال. لكن دوره لم ينتهِ مع استكمال الاحتلال عام 1948. فحتى يومنا هذا، تملك عائلة روتشيلد صناديق مانحة ضخمة تعمل على تمويل مشاريع مختلفة لخدمة «إسرائيل» حول العالم، فتموّل الأبحاث وتقدم منحاً طلابية لخلق جيل قيادي صهيوني آخر.
عند وفاة روتشيلد، انتقلت المجموعة المصرفية وشبكة الصناديق الخيرية التابعة للعائلة لابنه البارون بنيامين دي روتشيلد، الذي يدير اليوم هو وزوجته البارونة آريان دي روتشيلد نشاط صندوق «روتشيلد قيساريا» في «إسرائيل» كجزء من شبكة صناديق ادموند دي روتشيلد التي تعمل بمجال التعليم في جميع أنحاء العالم. على مدار سنين، اشترى روتشيلد أراضٍ كثيرة، وكان راعياً لمستوطنات عدة وأرسل خبراء زراعيين لمساعدة الطلائعيين. أقام وخلفاؤه 44 مستوطنة ومدينة وتجمعات سكنية (كيبوتسات)، وسمّي جزء من هذه الأماكن على اسم أبناء عائلة روتشيلد. في عام 1924 أسس البارون شركة «بيكا»، أي «رابطة الاستعمار اليهودي لفلسطين»، وهو جسم تنظيمي يدير الأراضي في «إسرائيل» ترأسه ابنه جيمس. وخلال فترة الحرب العالمية الأولى اقترب روتشيلد بالتدريج من الحركة الصهيونية ودعمها. وبالتالي منح منصب المدير العام الفخري للوكالة اليهودية في عام 1929، «تقديراً لجهوده».
كانت زوجته، البارونة عادا-ادلييد دي روتشيلد، شريكة فعّالة وانضمت إليه في زياراته الخمس لفلسطين المحتلة. وقادت بنفسها مبادرات مختلفة وأقامت «مؤسسة الشباب اليهودي» في باريس. وبعد عشرين عاماً على وفاتهم، في 6 أبريل عام 1954، تم إحضار عظامهم إلى البلاد بواسطة السفينة البحرية العسكرية ودفنوا في منطقة «رامات هنديف» الواقعة بين مستوطنتين سمّيتا على اسمه واسم والده، «بنيامينا» و«زخرون يعقوب».
كتب دافيد بن غوريون، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول، في مديحه للبارون: «أشك ان كنا سنجد في جميع أجيال الشعب اليهودي على مدار ألفي عام، شخص رائع كهذا الذي بنى التوطين اليهودي في هذا الموطن»!!