كألعاب الدومينو ، ما إن يسقط حجر حتى تتداعى أحجار أخرى على الرقعة نفسها.
هكذا يكتسب الاستفتاء الكردي المتوقع في 25 سبتمبر/أيلول المقبل للانفصال عن العراق رمزيته الافتتاحية للعبة التقسيم، التي تخيم على دول عربية عديدة.
بالتوقيت، الاستفتاء يستبق انتهاء الحرب مع «داعش» لاقتناص جوائز مبكرة، والعراق في لحظة خلل توازن بين أحواله وأزماته.
هناك عملية سياسية شبه عاجزة لا تسمح بتوافقات وطنية صلبة قادرة على إعادة صياغة الدولة من جديد والحفاظ على وحدتها.
إلى أي حد يمكن للمبادرات، التي تستشعر فدح الخطر، أن تصحح البنية السياسية حتى تكتسب مناعتها وصلابتها، بينما الاستحقاقات العاجلة تطرق الأبواب وتكاد تكسرها؟
في مقدمة الاستحقاقات ملف النازحين من ديارهم تحت وطأة الحرب مع «داعش» والجرائم المروعة التي ارتكبت.
ومن بينها ملف إعادة الإعمار من تحت الصفر تقريباً لمدن وبلدات خربت بالكامل.
أمام تلك الاستحقاقات الضاغطة على الأعصاب في العراق تبدو الخطوة التالية في الحرب مع «داعش» في «تلعفر» ملغمة بصدامات محتملة مع «البشمركة» الكردية.
كل شيء يجري بقوة التمركزات العسكرية، والاستفتاء المنتظر يضم مناطق خارج إقليم الحكم الذاتي الكردي.
ليست «كركوك» الغنية بالنفط وحدها موضوع التنازع.
الاستفتاء نفسه من طرف واحد، وبلا غطاء إقليمي أو دولي، قد يتأجل لبعض الوقت إذا ما مورست ضغوط قاهرة من الإدارة الأمريكية. وقد يحدث في مواقيته دون أن يكون له قوة الاعتراف الدولي، غير أنه في جميع الأحوال يؤسس لانفصال كردستان العراق،
وقد ينظر للاستفتاء بقرار منفرد على أنه نوع من الهروب إلى الأمام من الأزمات الداخلية، بقدر ما هو سباق مع الوقت قبل حسم الحرب مع «داعش»، خشية أن تفلت الفرصة.
بقواعد ألعاب الدومينو، فإن أحجاراً أخرى سوف تسقط، واللعبة كلها مشروع اضطرابات تأخذ من الإقليم تطلعه لالتقاط الأنفاس بعد انتهاء هذه الحرب.
من المؤكد أن يتخذ أكراد سوريا المسار نفسه، بعد وقت قد لا يطول.
بقوة السلاح على الأرض هناك إدارة ذاتية للأكراد في الشمال السوري مدعومة أمريكياً.
هذه حقيقة تؤذن بسيناريوهات انفصالية إذا ما قرر اللاعبون الكبار الدخول في صفقات أخيرة لتوزيع الغنائم بعد انتهاء الحرب مع «داعش».
بالنسبة لروسيا فإن ما قد تحوزه من مصالح استراتيجية وما تتوافق مع حلفائها عليه يحكمها في النهاية.
وبالنسبة للولايات المتحدة فإن اضطرابها بادٍ في النظر إلى «مشروع الدولة الكردية»- تؤيده وتدعمه لكنها تتردد في حسم كلمتها الأخيرة.
عندما بدا أن «داعش» على وشك اقتحام «أربيل»- عاصمة كردستان العراق- تدخلت بكل قوتها العسكرية والسياسية لمنع سقوطها، وأن تلقى نفس المصير الذي آلت إليه مدن كبرى.
دربت وسلّحت «البشمركة» حتى تكون قوة عسكرية قادرة على الوفاء بأي مهام تسند لها.
غير أنها قد ترى- باللحظة الحالية- أن توقيت الاستفتاء يفضي لنتائج سلبية على مصالحها الاستراتيجية في أي ترتيبات تالية.
بالتوقيت نفسه مارست الولايات المتحدة لعبة مزدوجة بين تركيا والأكراد، على الساحة السورية.
تركيا أكثر دول الإقليم توجساً من إنشاء دويلة كردية في الشمال السوري، بالقرب من حدودها، يسيطر عليها سياسياً حزب «العمال الكردستاني»، الذي تتبنى أيديولوجيته فكرة الانفصال عن الجسد التركي.
الأكراد في تركيا أقلية كبيرة وانفصالهم يعني بالضبط انهياراً مؤكداً في بنية الدولة التركية وقدرتها على البقاء.
من هذه الرؤية الوضع الكردي على حدودها مسألة حياة أو موت.
هكذا هددت بالتدخل العسكري المباشر لمنع أي احتمال من مثل هذا النوع دون أن تأبه تقريباً بالتطمينات الأمريكية التي تحاول تهدئة مخاوفها.
كان لافتاً ومثيراً ومحملاً بالرسائل إلى المستقبل المنظور؛ أن السياسة الأمريكية أسندت مهمة تحرير «الرقة»- عاصمة ما تسمى دولة الخلافة، تحت إشرافها الكامل- إلى قوات «سوريا الديمقراطية»، الموالية ل«العمال الكردستاني».
بقدر ما، فإن الخطر المحتمل من الشمال السوري أهم لتركيا من توقيت استفتاء كردستان العراق، فهو يضرب في صميم وحدتها الداخلية.
مصدر الخطورة في ذلك الاستفتاء أنه يشجع ويزكي دويلة مشابهة في سوريا، قد تسعى للوحدة مع كردستان العراق، بما ينذر بمزيد من الأيام الصعبة مع الكرد الأتراك.
إيران لديها مخاوف أخرى من أن يفضي انفصال الكرد عن العراق إلى النيل من أدوارها ومصالحها الحيوية.
بالنظرة نفسها فإنها تناهض سيناريو تقسيم سوريا.
أين العرب من تلك الحسابات والمصالح الدولية والإقليمية المتناقضة؟
الصمت يكاد يكون مطبقًا بلا مواقف يعتد بها في موازين الصراع على المستقبل.
لعبة التقسيم إذا ما بدأت فلن تتوقف.
الاستفتاء الكردي خيط أول يجرُّ ما بعده.
بغض النظر عما قد يحدث في الاستفتاء، فإن النتائج الأخيرة مؤجلة إلى ما بعد حلحلة العقدة السورية والنظر الأخير في أفق تسويتها.
إذا ما قسمت سوريا فإننا أمام عالم عربي جديد، هو الحلقة الأضعف في الإقليم.
التقسيم المصير المستعجل لليبيا واليمن ودول عربية أخرى قد تأخذ دورها، والقضية الفلسطينية سوف توضع على المذبح الأخير.
هذه صورة قاتمة لكنها محتملة.
التقسيم ليس قدراً بقدر ما هو نتاج لتراجع العالم العربي وهزيمته في الروح قبل السياسة.
من أحجار الدومينو، التي سوف تسقط بالتبعية في نهاية المطاف، النظام العربي المتداعي.
في هذا السيناريو سوف ينشأ نظام إقليمي جديد على أطلال التقسيمات.
قبل مئة عام رسمت اتفاقية «سايكس بيكو» خرائط الدول ووزعت مناطق النفوذ بالورقة والقلم.
هذه المرة سوف ترسم الخرائط المحتملة بقوة السلاح على الأرض ومقايضات المصالح الكبرى.
الاستفتاء الكردي بداية لا نهاية لتفاعلات وصدامات وتقسيمات، وربما حروب دموية عرقية وطائفية تهون بجوارها الحرب مع «داعش».
أرجو التنبه قبل فوات الأوان.
49 3 minutes read