بعد أكثر من ثلاثين عاماً، مرت على رحيله عن الدنيا، تذكر المصريون فجأة، اللواء محمد نجيب – الزعيم الواجهة لثورة 23 يوليو 1952، وأول رئيس لمصر الجمهورية – بمناسبة إطلاق القوات المسلحة المصرية، لاسمه على أول قاعدة عسكرية متكاملة تقوم بإنشائها.
وكما هي العادة، فقد عاد اسم اللواء نجيب من الماضي محملاً بغبار التاريخ، وبالخلاف الحاد الذي دار بين الذين عاصروه، أو أرخوا له، حول دوره في تاريخ ثورة يوليو، فرحب البعض منهم بالقرار واعتبروه إنصافاً لأشهر المظلومين في تاريخ هذه الثورة، وانتهزوا الفرصة لكي يتذكروا، ويذكروا الآخرين بفصل من كتاب «سيئات يوليو» التي وضعت أول زعيم لها قيد الإقامة الجبرية، لمدة تقترب من عشرين عاماً متصلة، قضاها في قصر مهجور، في إحدى ضواحي القاهرة، لم تكن مصادفة أنه كان مملوكاً للسيدة زينب الوكيل – حرم الزعيم مصطفى النحاس الذي تولى زعامة الحركة الوطنية المصرية بين عامي 1927 و1952، قبل أن تصادر «محكمة الثورة» هذا القصر، ضمن ما صادرته من أملاكها، ولم يكن يؤنس وحدة اللواء نجيب خلال تلك السنوات الطويلة، سوى أسراب من القطط كان يربيها ويبثها أحزانه، ويشكو إليها ما فعله به رفاق الثورة التي قادها لمجرد أنه – في رأي الذين رحبوا بالقرار – دافع عن الديمقراطية، وتصدى للديكتاتورية والاستبداد.
وعلى العكس من هؤلاء، فقد اعترض آخرون على القرار، لأنهم يعتقدون أن محمد نجيب نفسه، وليس قرار عزله واعتقاله – هو صفحة من كتاب سيئات الذين انقلبوا على الثورة وتحالفوا مع أعدائها، وأن تخليد ذكراه بإطلاق اسمه على القاعدة العسكرية، ينطوي على إدانة لثورة يوليو وعدوان على تاريخها.
ولم يكن ما حدث للواء محمد نجيب – كما زعم الذين رحبوا بالقرار واحتفوا به، هو الأول أو – الأقسى – من نوعه في تاريخ معظم ثورات العالم، من الثورة الفرنسية التي أطاحت المقصلة برؤوس عدد من قادتها، بأحكام – أو أوامر – أصدرها زملاؤهم في النضال، إلى الثورة السوفييتية التي أعدم ستالين – خلال الأعوام الثلاثين التي تولى فيها الحكم – مئات من رفاقه الذين شاركوه في أحداثها، ولم تكن الثورات التي وقعت في العالم العربي، بعيدة عن القانون الذي صاغه أحد «زعماء الثورة الفرنسية»، حين وصف الثورات بأنها – كالقطط – تأكل أبناءها، فما أكثر ما انتهى الصراع على السلطة، بين قادة الثورات العربية إلى خلاف، يظل يتصاعد إلى أن يسفر عن انفراد أحدهم بالسلطة، ليضع الآخر أو الآخرين في السجن، أو يصدر حكماً بإعدامه أو إعدامهم.. حدث هذا – بعد الصراع بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر – وبين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف في العراق، وبين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف في تونس، وبين هواري بومدين وأحمد بن بلّة في الجزائر، وبين معمر القذافي وشركائه في قيادة الثورة الليبية، بل وحدث قبل ثورة يوليو 1952، وفي ظل الحكم المدني الديمقراطي، حين استغل مصطفى النحاس إعلان الأحكام العرفية – بسبب الحرب العالمية الثانية – ليأمر باعتقال شريك كفاحه مكرم عبيد وأنصاره بسبب انشقاقه عن حزب الوفد، وإصداره كتاباً أسود عن سيئات حكمه!
ولم يكن محمد نجيب هو الوحيد من قادة ثورة 23 يوليو 1952، الذي أسفر الخلاف بين عبد الناصر وبينه إلى سجنه أو ما يشبه السجن، فقد لحق هذا المصير بآخرين، من رفاق عبد الناصر، كان من بينهم يوسف صديق الذي اعتقل لشهور بعد انتهاء أزمة مارس 1954، وخالد محيى الدين الذي نفي إلى سويسرا في الفترة نفسها ليمضي ما يزيد على العام في هذا المنفى، وعبد المنعم عبد الرؤوف الذي حكم عليه بالإعدام بتهمة المشاركة في التخطيط لمحاولة الإخوان المسلمين اغتيال عبد الناصر عام 1954، ولم ينقذه من تنفيذ الحكم سوى نجاحه في الهرب من البلاد، التي لم يعد إليها إلا في عهد السادات.
ولم يكن هؤلاء هم الوحيدون من أعضاء مجلس قيادة الثورة، الذين اتخذت بحقهم إجراءات نقلتهم من قمة السلطة إلى زنازينها أو منافيها في المرحلة الأولى من الثورة، بل شملت هذه الإجراءات العقابية القاسية اثنين آخرين من أعضاء هذا المجلس، شاركوا عبد الناصر في السلطة لسنوات طويلة، هما كمال الدين حسين الذي حددت إقامته لشهور قليلة، بسبب تعاطفه مع أفكار سيد قطب وعبد الحكيم عامر أقرب أعضاء المجلس إلى قلب عبد الناصر، قبل أن تتدهور العلاقات بينهما في أعقاب هزيمة 1967، وتنتهي باعتقال عامر وتحديد إقامته، ثم انتحاره!
وعلى عكس هؤلاء جميعاً، وغيرهم من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، بل ومن قادة وسياسيى (العهد السابق على الثورة، الذين كان عبد الناصر يعتبر ما يتخذه ضدهم إجراءات وقائية ومؤقتة لا تستمر طويلاً) والذين كان يعفو عنهم بعد أن يطمئن إلى خطرهم عن السلطة قد زال، وكان هذا هو السبب الذي جعله يصر على إبقاء محمد نجيب رهن الإقامة الجبرية، لمدة تصل إلى ما يقرب من عشرين عاماً، لم تدفع عنه إلا بعد رحيله عن الدنيا، ليسترد محمد نجيب في عهد السادات حريته، ويغادر قصر زينب الوكيل، الذي أمضى به كل هذه السنوات وحيداً إلا من سرب من القطط كان يربيها ويبثها أحزانه، ولا بد أنه كان يسألها كل صباح، عما إذا كانت الثورات حقاً، كالقطط تأكل أبناءها!