مرة أخرى، وقف المقدسيون، مسلمون ومسيحيون، وقفة رجل واحد، في مواجهة المخطط الصهيوني لتهويد المسجد الأقصى، وأفشلوا مشروع البوابة الإلكترونية، مؤكدين مجدداً استحالة ترويض الشعب الفلسطيني المقاوم، المصمم على انتزاع حريته، وإقامة دولته المستقلة، فوق ترابه الوطني، وليؤكد مجدداً صدق توصيف الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بأن هذا الشعب هو شعب الجبارين.
فمنذ احتلال فلسطين عام 1948، حتى يومنا هذا، والشعب الفلسطيني المظلوم يواجه عنف المحتل، بانتفاضات وهبّات متتالية. وبعد نكسة يونيو/حزيران عام 1967، وفشل الجيوش العربية، في التصدي للغطرسة الصهيونية، انبثقت مرحلة جديدة، عمادها التأكيد على الهوية الفلسطينية.
وبديهي أن يستمر الكفاح الفلسطيني من أجل تحرير الأرض، وأن يجري التصدي لسياسات وغطرسة العدو. إن هذا الكفاح هو تماهٍ طبيعي مع قانون التحدي والاستجابة، فلم يحدث في التاريخ الإنساني المعاصر، أن ظُلم شعب، كما ظُلم الشعب الفلسطيني. لقد صودرت هوية هذا الشعب، وانتزع من أرضه، واستبدلت فلسطين التاريخية، بشعب آخر، قدم من مختلف أصقاع الأرض، مستنداً في مغالبة السكان الأصليين، على أسطورة وفرادة تاريخية وموقف عنصري. وما كان لكل ذلك، أن يأخذ مكانه، لولا التواطؤ الدولي، والضعف العربي، وهشاشة مقاومة السكان الأصليين للاحتلال، لافتقارهم للوحدة والتنظيم ومستلزمات المقاومة الأخرى.
كان وعد بلفور عام 1917، بتشكيل وطن قومي للصهاينة على أرض فلسطين، قد جاء من خارج المكان، ومن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وقد هيأ هذا الوعد، وما تبعه من هجرات يهودية واسعة لفلسطين، لنكبة فلسطين، عام 1948، والتي تمخض عنها تأسيس الكيان الغاصب، وطرد سبعمئة ألف فلسطيني من ديارهم. ولم يكن لذلك أن يتحقق لولا نتائج الحرب الكونية الثانية، والقرار الدولي، بإيجاد إسفين استيطاني أوروبي عنصري، بمعلم يهودي، في خاصرة الأمة. ولم يكن لهذا المشروع أن يتحقق لولا وضع بصمة هيئة الأمم المتحدة، وقرار التقسيم رقم 181 الصادر في 17 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947.
بعد نكسة الخامس من يونيو 1967، حدث النزوح الثاني الكبير للفلسطينيين إلى الشتات، بعد احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية. ومرة أخرى، كان التدخل الدولي فاضحاً، في صياغة مشاريع تسوية ما بعد النكسة، وفي تكريس الأمر الواقع.
وإثر انتهاء معركة العبور عام 1973، تحقق انتقال استراتيجي سياسي، وتغيرت خريطة التحالفات الدولية، ووضعت المقدمات لمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي عبرت عنه كتابات شيمون بيريز. وكان التدخل الأمريكي جلياً منذ لحظة توقف المدافع.
تواصلت هذه المرحلة، بمقتضاها الجديد، الذي يدفع بالضحية إلى التخلي نهائياً عن مطالبه التاريخية، في أرضه وأرض أجداده، وأن يسلم لسارقي أرضه، بما اكتسبوه بقوة السطو، وجبروت القوة. وكان توقيع اتفاقية أوسلو بين الحكومة «الإسرائيلية»، بزعامة إسحق رابين، ومنظمة التحرير الفلسطينية، هو مرحلة التنازل الأخطر في تاريخ الصراع العربي الصهيوني. وخطورته أنه تم مباشرة بين الضحية والجلاد.
حصل الفلسطينيون على حكم ذاتي منقوص، دون سيطرة فعلية على الأرض. وغيب اتفاق حق العودة، ولم يأتِ على ذكر لاجئي عام 1948 إطلاقاً. وحين يتعلق الأمر بمستقبل مدينة القدس، لم تشر الاتفاقية أبداً لحق العرب بالسيادة عليها، أو على أي جزء منها. بل على العكس، فإن المسؤولين «الإسرائيليين» ما انفكوا يصرحون بمناسبة وبغير مناسبة، أن القدس ستبقى موحدة، وستبقى العاصمة الأبدية لدولة «إسرائيل». أما المستوطنات الصهيونية، بأراضي الضفة والقطاع فقد تجاهلها الاتفاق جملة وتفصيلاً.
تاريخياً، عوّل الصهاينة في نجاح مشروعهم، الاستيطاني التوسعي، على ضعف الذاكرة الفلسطينية. وأن جيلاً فلسطينياً جديداً سوف يولد، لن تكون له علاقة بالصراع وأبجدياته. لكن التاريخ الفلسطيني أثبت بما لا يقبل الشك، أن الذاكرة الفلسطينية حية ومبدعة، وعصية على التذرر.
وكان التاريخ الفلسطيني بمجمله عبارة عن حالات نهوض وانتفاضات متواصلة، من أجيال مختلفة في وجه المحتل. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، النهوض الوطني بالأراضي المحتلة، في منتصف السبعينات من القرن المنصرم، والذي أفرز قيادات وطنية فلسطينية تعرضت لاحقاً من قبل أجهزة الأمن «الإسرائيلية» للتصفية والاغتيال، من بينهم بسام الشكعة وفهد القواسمة ومحمد ملحم، وكثير غيرهم.
وفي أواخر الثمانينات من القرن الماضي، تحدى أطفال الحجارة الوهم الصهيوني بانتفاء الذاكرة الفلسطينية، وسجلوا ملحمة من أنصع صفحات الكفاح الفلسطيني، استشهد فيها أكثر من ألف طفل، عدا الآلاف ممن تشوهت أجسادهم الغضة، كاشفة فاشية الاحتلال، وكيف أن فلسطين بقيت حية في وجدان الأطفال من الفلسطينيين.
وفي مطلع هذا القرن، اندلعت انتفاضة الأقصى، لتؤكد مجدداً قوة حضور قضية الاحتلال، في الوجدان الفلسطيني رغم الكلف الباهظة التي قدمها الفلسطينيون في تلك الانتفاضة.
هبة الأقصى الجديدة، هي استمرار للكفاح الفلسطيني، وهي تذكير للعدو بأن تعويله على محو الذاكرة الفلسطينية، هو مراهنة على الوهم. ولسوف يستمر الكفاح الفلسطيني، إلى أن تتحرر فلسطين، ويعود الحق لأهله، وهي تأكيد على أن النضال الفلسطيني سوف يتواصل، ولن يؤثر في استمراره، تبدل الأجيال، وستظل الذاكرة الفلسطينية حية عصية على الذوبان.