لا يمكن أن تكون تشي غيفارا صباحاً، ولي كوان يو الذي يعد مؤسس سنغافورة مساء، ولا يمكن أن ترتدي جينزاً وترقص على أنغام «ديسباسيتو» لتجذب الآخرين وتقنعهم بأنك رجل «عصري» ومنفتح، ثم ترد على من يتهمك بالتخلي عن جذورك بارتداء الكوفية الفلسطينية والرقص على الدبكة مساءً وفي الساحة ذاتها، فهذه خلطة من لا هوية له. المظهر ليس كل شيء ما لم تكن ملتزماً بمبادئك الأساسية، متمسكاً بها سائراً على نهجها، ومقاييس المبادئ لا تحددها بحسب أهوائك أو ما تيسر، بل هي قوانين تفرض عليك نمطاً محدداً للتعايش مع الجماعة أو من حولك على الأقل.
قطر حالياً تحتضن «حماس» وتمد يدها لإسرائيل! تصطف مع الشرعية في اليمن وتدعم الحوثيين في الوقت ذاته! تقف مع التحالف ضد الإرهاب ثم تقوم بدعم الإرهاب وتعززه! تتحدث عن السيادة وسيادتها باتت في حدود القصر الذي يقيم به أميرها! تقول نحن بخير، ثم يخرج علينا وزير خارجيتها يتباكى يدعي الحصار! تقول نريد الحوار فيخرج وزير دفاعهم بخطاب ناصري ليقول سندافع عن أنفسنا ولن تبتلعونا بسهولة!
الفكر الثورجي لا يمكن أن يجتمع مع الرؤية المدنية للدولة، هذا ما لم تستوعبه الدوحة، بل إن التخطيط للتمدد الناعم والخشن لا يمكن أن ينسجم مع احترام السيادة، بينما شعار الأخوة الصادقة لا يمكن أن يسير جنباً إلى جنب مع نظريات الضرب تحت الحزام. السياسة القطرية أخطأت الحسابات، وهي ليست المرة الأولى، وما زالت تتمادى، ظناً منها أنها تحقق مكاسب من خلال التشويه المتعمد للتاريخ والتعدي على سيادة الدول الأخرى، ومن أجل من؟ أمن أجل بضعة خارجين عن القانون؟
تساءلت وأنا أتابع خطاب الشيخ تميم بن حمد، ترى، أي نموذج ومنهج يسعى إلى السير عليه؟ فلم أجد إجابة، فهو يريد القفز على التاريخ والجغرافيا، ويريد القفز على العقل والمنطق، ويريد القفز على الأدلة والحقائق، وختاماً يريد القفز على واقع بلاده والمأزق الذي وضعها فيه، ترى، هل تعود قطر؟
شخصياً أشك في عودتها إلى الحضن الخليجي، فأميرها اليوم غير عابئ بما تنتظره بلاده، هو يعيش يومه فقط، وبالنسبة لشعبه فمثلما قال أحد إعلامييهم باستخفاف: «يكفيهم شاحنتا مواد غذائية».
الدوحة تعتقد أن توقيع اتفاق مع واشنطن من شأنه أن يخفف الضغط عنها، وبالتالي لا يهم أن يكون لدول المنطقة تحفظات طالما أميركا خلفنا، لكن الكونغرس أول من أمس لوّح بنقل قاعدة «العديد» ما لم تغير الدوحة سياساتها الداعمة للإرهاب، هذا ما لم يستوعبه الشيخ تميم، أنه بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية هو كرت محترق، ومهما أوحوا إليه بأنهم معه فهم ضده، وقائمة من تخلت عنهم واشنطن طويلة ابتداء من شاه إيران محمد رضا بهلوي، إلى الرئيس المصري حسني مبارك، مروراً بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والرئيس الفيليبيني فرديناند ماركوس، والرئيس البنمي مانويل نوريغا، والرئيس السوداني جعفر نميري، والقائمة تطول، إذ لا يمكن القول هنا إن أميركا ستضحي بحلفائها الأكبر والأبرز في المنطقة لدعم دولة ذات ثقل محدود مثل قطر إن كانت هذا ما تتوقعه، وأيضاً دول المنطقة لن تقف مكتوفة الأيدي بانتظار ما ستسفر عنه عمليات المساومة التي تلجأ لها الحكومة القطرية.
مع استمرار الأزمة كل يوم يمر تصبح الدوحة أبعد عن محيطها، وعودتها أكثر صعوبة، واليوم نحن ندرك أن قطر بين خيارين أحلاهما مر، فإذا أعلنت تراجعها عن سياستها فستسقط في الداخل، وإن رفضت فستسقط في الخارج، إذاً هي ستسقط بجميع الأحوال، وهذا ما يحتم التعامل مع المستقبل من دون قطر. فمنذ بدء المقاطعة شهدت العديد من الملفات تقدماً لافتاً، سواء في الملف السوري أم اليمني، وأبرزها كان في ليبيا، وهذه الملفات لم تتحرك مصادفة، بل جاءت نتيجة انشغال الدوحة بشؤونها الداخلية، ومن شأن المزيد من الضغوط على الدوحة أن تسفر عن إحراز تقدم أكبر في هذه الملفات.
إن الدوحة ومن خلال المعطيات والنهج الذي تنتهجه لا يبدو أنها حريصة على العودة لحضنها الخليجي، هي تحرص اليوم على اقتصادها فقط، وكل ما تسعى إليه هو فتح الأجواء والحدود، لا من أجل شعبها، إطلاقاً، بل من أجل صيانة اقتصادها، وهذا من شأنها، ولكن غير المقبول هو أن تصل الأمور إلى توظيف قناتها لإشاعة الفوضى وتجييش الشعوب وتسويق الإرهاب، هنا تكون خرجت عن مسارها، وعندما تستضيف المخالفين والخارجين عن القانون بشعار أجوف «كعبة المضيوم»، ستكون انحرفت عن الخط والقانون الدولي، أما عندما تمنح جوازات سفر لمطلوبين على قوائم الإرهاب، فهنا تكون قد تجاوزت جميع الخطوط بجميع ألوانها.
قطر اليوم بلا هوية، بل هي أشبه بـ«بهلوان» يسير مترنحاً على حبل ممدود بين نقطتين في محاولة لتجنب السقوط وهو يلعب بكرات متعددة لإظهار براعته، لكنه غير محترف، يسقط في منتصف الطريق، وتقع كراته على رأسه واحدة تلو الأخرى، أما الجمهور فهو بين مشفق وآخر معجب به يتهم «أيادي خفية» بالتسبب في سقوطه، خوفاً من وصوله إلى العالمية.
علينا أن نتوقع من الدوحة مواصلة سياساتها ومحاولاتها لتقويض أمن المنطقة، حتى لو تطلب الأمر التعاون مع كل أعداء الأمة، ابتداء بإسرائيل وانتهاء بإيران، والسبب هنا أن «القطريين» الذين يقودون الأزمة غير «قطريين»، وليس من مصلحتهم أن يعملوا لمصلحة «القطريين»!