عندما ندرس أدبيات «الحركات الجهادية»، نجدها تركز على مفاهيم من قبيل عزة الإسلام ونصرة دين الله، وإعلاء كلمة الإسلام وغيرها من المفاهيم التي تثير وجدان الشباب المسلم، وتدفعه إلى الغيرة على الدين الحنيف والارتماء في أحضان التنظيمات التي تتولى بعد ضمان استقطابه التحكّم في «عقل الجهادي» وتوجيهه نحو الغايات والمقاصد الجهادية التي ترسمها هي أو ترسمها الدوائر الاستخباراتية التي تحركها، ويبدو لنا أن مختلف الحركات التي تتبنى المقولات الجهادية، لها خطوط حُمر، ومن بين هذه الخطوط الحمر التي لا يجب عليها الخوض فيها هي مسألة تحرير القدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
أَوَ ليس مستغربا ألاّ تشير «دولة الخلافة» المزعومة من قريب أو من بعيد إلى القدس، وضرورة تخليصها من الاحتلال الصهيوني؟ أَوَليس لافتا للانتباه، أن التنظيمات التي استطاعت أن تحشد مئات الآلاف من المسلمين من مختلف أنحاء العالم، وأن تزج بعشرات الآلاف منه في محارق العراق وسوريا وليبيا واليمن، لم تستطع أن تنجز عملية واحدة ضد جيش الاحتلال الصهيوني، ولم تمسه بسوء؟؟
لنفترض جدلا أن النظام الرسمي العربي مطبّع ومتنازل عن القضية الأمّ وفي هذا الرأي يختلف المختلفون مدّا وجزرا، فهل أن التنظيمات التي تدعو للخروج على هذا النظام الرسمي وتعتبره «كافراً»، قدمت الحلول البديلة فيما يتعلق بفلسطين وبالقدس الشريف؟ الحقيقة أن النظام الرسمي ومنذ النكبة وحتى ما قبلها، خاض معارك كثيرة ضد الاحتلال، حروباً وعمليات فدائية ومفاوضات سياسية، انتصر في بعضها وانهزم في كثير منها، وتنازل في كثير من الأحيان عن حقوق فلسطينية، بحثاً عن سلام ثبت أنه مجرد أوهام، لأن موازين القوى ليست متعادلة، ولأن القوى الدولية الكبرى تضع بيضها كله في السلة الصهيونية.
حتى في الفكر «الإخواني»، فإن المسألة الفلسطينية هي مسألة ثانوية مقارنة بالاهتمام بالشأن الداخلي ومسألة الثورة والجهاد ضد السلطة القائمة. والمحصلة أن هذه التنظيمات التي تتبنى مقولات نصرة الإسلام، لا تولي شأنا لأحد أهم الأماكن المقدسة للمسلمين. وهذا ثابت في الفكر وفي الممارسة لكل الحركات التي تسمي نفسها حركات جهادية.
وفي المقابل، فإن تاريخ حركة التحرر الفلسطينية، وبفصائلها المتنوعة، نجدها قدمت تاريخاً مشرفاً في مجال التضحيات، من أجل تحرير القدس. وهذه الحركات اليسارية والعلمانية أساساً، تدافع عن أقدس الأماكن دون أي اعتبار للأيديولوجيا الفكرية. وهي قدمت منتجات فكرية وفنية، وقادت حركات فدائية ضد جيش الاحتلال منذ النكبة وفي أحلك الفترات، واستطاعت هذه الحركات السياسية والثقافية أن تقدم شهداء للأقصى، وكانت تركز جهودها من أجل توحيد جهود الداخل الفلسطيني، وأعلت صوت البندقية،. أوليست هذه الحركات السياسية والعلمانية «المصنفة» كافرة في أدبيات الحركات الجهادية، هي أكثر صدقاً وأكثر وطنية في حربها ضد الاحتلال الغاشم، وكانت هذه الحركات في الوطن العربي وفي العالم تتبنى القضية الفلسطينية، وتدافع عنها في كل المحافل.
اليوم تتحرك القوى العروبية، ضد مشاريع التطبيع، وتقود المسيرات ضد محاولات تهويد القدس وهي تمارس دورها هذا منذ عقود ولم تحد عن المبادئ أبداً. وتمارس الضغط الشعبي والإعلامي على الأنظمة من أجل إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، فيما تواصل «الحركات الجهادية»، حروبها التدميرية على العرب والمسلمين، وتخوض حرباً تدميرية ضد كل أشكال التقدم والبناء، في الدول العربية، فإن بوصلتها لا تشير أبداً للقدس.
مفتي القدس عكرمة صبري، قال إن المعركة مع العدو لن تحل بالمفاوضات، وهو يدرك حقيقة الصراع وجوهره، في المسجد الأقصى وفي مدينة القدس وفي كامل أنحاء فلسطين، كما يدرك أن الاحتلال يوظف كل طاقاته من أجل الهيمنة الكاملة على القدس، وتحويلها إلى عاصمة أبدية له، ولذلك يدفع بالمتطرفين اليهود من أجل أن يساهم في تأجيج الأوضاع داخل المدينة ومن أجل توسيع رقعة دائرة الصراع. وفي نفس الوقت يتحالف العدو الصهيوني مع المتطرفين الإسلاميين ليقوموا بأدوارهم التخريبية في كل أرجاء الوطن العربي، وهناك دول عربية تساهم في هذا المجهود التخريبي من خلال دفاعها عن الفكر المتطرف والترويج له. ومن خلال تبنيها للمشاريع الإرهابية، ودعمها مادياً وإعلامياً. وليس هناك من فرق، بين المشروعين. فالمشروع الصهيوني، عمل منذ وجوده على تعطيل أي أفق نهضوي وتقدمي للعرب، وضرب، عندما استدعت الفرصة المشاريع العلمية واغتال العلماء، ووقف ضد كل محاولات التقارب بين العرب، لأن في تقاربهم قوة. وما لم ينجزه العدو الصهيوني، خلال ستة عقود، أنجزته المجاميع الإرهابية في ست سنوات فقط.
الجهاد الحقيقي هو في القدس، والمرابطون في المسجد الأقصى، هم الأحرار الذين يوجهون البوصلة نحو وجهتها الحقيقية ويعيدون الصراع إلى المربع الأصلي. ما يخافه الاحتلال في هذه الأيام، هو أن ينتشر الغضب الشعبي في كامل أرجاء الوطن العربي، وهو يدرك أن قضية فلسطين والقدس هي فوق التجاذبات الداخلية ولا يمكن أن تكون إلا عنصر توحيد داخلي وعربي. ولذلك فكلما صمد المقدسيون في جهادهم الحقيقي، كلما تراجعت صورة الجهاد الزائف الذي تقوده الجماعات التكفيرية. القدس هي البوصلة الحقيقية، وهي الجامعة للقوى الوطنية الصادقة في الوطن العربي. وهي القضية التي لا تموت في الوجدان العربي، رغم كل الانكسارات والهزائم والدمار الذي خلفه الربيع العربي. أيام أخرى من الصمود المقدسي، كفيلة بدفع ملايين العرب إلى الشوارع، لتشكل قوة ضغط رئيسية في المعركة مع المحتلين. أيام صمود أخرى وسنرى القوى الدولية المتآمرة مع الكيان الصهيوني، تسحب من رفوفها مشاريع السلام التي تراكم عليها الغبار، محاولة الإقناع بأن المفاوضات هي خيار استراتيجي، وهذا في حد ذاته يمثل خطوة نحو صد المشاريع الصهيونية.
61 3 دقائق