برغم اتساع مساحة الخلاف بين الموقفين الأميركي والأوروبي حول القضايا الأساسية الأربع المتعلقة بالدفاع والتجارة والمناخ واتفاق إيران النووي، بما يزيد من قسمة العالم، لا يزال الغربيون يبذلون جهوداً كبيرة لترميم هذه الخلافات ومحاولة علاج أسبابها، ويتوافقون على ضرورة تجنب صدام المصالح بين الاتحاد الأوربي وأميركا، والحفاظ على الحد الأدنى من علاقات التعاون والتنسيق المشترك، مع ضرورة استمرار الحوار حول هذه المشكلات، أملاً في تضييق مساحة الخلاف، خاصة في قضايا الأمن والدفاع من خلال زيادة موازنات دفاع الدول الأوروبية، ورفع قيمة إسهامها في موازنة حلف الأطلنطي.
كما يتوافقون في قضايا التجارة الدولية، على أن تغييرات مهمة لا بد أن تلحق بالليبرالية الاقتصادية، توازن بين ضرورات تعزيز التعاون الدولي والحفاظ على أسس العولمة وإصلاح شروطها وبنودها، بدلاً من إنكارها وعدم الإضرار بالمصالح الوطنية الأساسية المتمثلة في الحفاظ على الأمن وأولوية السكان الأصليين في الحصول على فرص العمل، تحت الضغوط المتزايدة لمخاطر الهجرة القادمة من الجنوب، وتأثيرها في الأوضاع الأمنية في البلاد، ونسب البطالة بين السكان الوطنيين، خاصة أن المهاجرين القادمين من الجنوب يقبلون أجوراً أقل، بما يعطيهم أولوية خاصة في الحصول على فرص العمل على حساب السكان الوطنيين.
يتسع حجم الخلاف بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، ليشمل العديد من القضايا والمشكلات، بحيث لم تعد وقفاً على قضايا التجارة الدولية وسبل حمايتها من الاحتكار والإغراق وغلق الأسواق لصالح المنتجات الوطنية، أو قضايا تغيرات المناخ التي تفصل بين الموقفين الأميركي والأوروبي، إلى حد دفع الرئيس الأميركي ترامب إلى الانسحاب من اتفاقية باريس، لتصبح الولايات المتحدة وحدها في جانب، وباقي الدول العشرين التي تمثل مجموعة الدول الأغنى والأقوى في جانب آخر، بما يحمله ذلك من مخاطر جسيمة على مصير كوكبنا الأرض، نتيجة تفكك جهود المجتمع الدولي لخفض حجم الانبعاثات الكربونية المعلقة في الجو، التي تتسبب في ارتفاع درجة حرارة الكون، وذوبان جليد القطبين، وارتفاع مستويات المياه في البحار والمحيطات، إلى حد يهدد بغرق نسبة غير قليلة من سواحل العالم، فضلاً عن تغيرات مناخية أخرى، ربم ا تكون أشد خطراً، تتمثل في تنامي ظاهرات الجفاف والفيضانات والأعاصير بصورة تؤثر في كل مناحي الحياة فوق كوكبنا الأرض.
فضلاً عن ذلك، هناك سبب آخر لاتساع حجم الخلاف بين الموقفين الأميركي والأوروبي، يتعلق بقضية الدفاع والأمن الأوربي، يتنامى ويتصاعد منذ دخول الرئيس الأميركي ترامب إلى البيت الأبيض، الذي يتهم الأوربيين بخفض موازناتهم الدفاعية، قياساً على حجم ناتجهم الوطني، وضعف إسهامهم في موازنة حلف الأطلنطي، ليصبح العبء الأكبر من كلفة الدفاع الغربي على كاهل دافع الضرائب الأميركي.
لكن هناك ما يؤكد أيضاً أن أخطر نقاط الاختلاف بين الأوروبيين والأميركيين، التي لم تجد بعد حلاً صحيحاً، هي التي تتعلق بتضارب الرؤى والمصالح حول الاتفاق النووي الإيراني، الذي وقعته طهران مع الولايات المتحدة وخمس دول أخرى، بعد مفاوضات شاقة ومريرة، انتهت بالاتفاق على رفع العقوبات الدولية عن إيران، والإفراج عن أرصدتها المجمدة في بنوك الغرب، مقابل تجميد إيران للجانب العسكري من برنامجها النووي، والتزامها بعدم السعي إلى إنتاج سلاح نووي، والامتناع عن إنتاج يورانيوم عالي التخصيب بتجاوز درجة التخصيب المطلوب لإنتاج وقود نووي (4 في المئة)، وتفكيك مفاعلها النووي الذي يعمل بالماء الثقيل، وإخضاع جميع مرافقها ومنشآتها النووية للتفتيش المنتظم والمفاجئ على مدار الساعة.
لأنه على حين تريد الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس ترامب، مراجعة بعض بنود الاتفاق، إن لم يكن هدره وتمزيقه، وإلزام طهران وقف تجاربها الصاروخية، ترى طهران أن قضية تطوير قدراتها الصاروخية، لا علاقة لها بالاتفاق النووي، وبينما تخطط واشنطن لفرض عقوبات جديدة على إيران، وتدعو حلفاءها الأوربيين إلى الامتناع عن المشاركة في أي استثمارات جديدة داخل إيران، يرى الأوروبيون ضرورة احترام بنود الاتفاق النووي، خاصة أن وكالة الطاقة النووية، تؤكد التزام طهران بكافة البنود، ويصر الأوروبيون حتى الآن على أن رغبة الأميركيين في تعديل بعض بنود الاتفاق أو إلغاؤه بالكامل، لا يلزمهم في شيء، وأن امتناع الاستثمارات الأوروبية عن المشاركة في إيران، سوف يضر بمصالح أوروبا في سوق نشيطة متنوعة المشروعات، يتسابق الجميع على الفوز بمشروعاتها، وقبل بضعة أسابيع، وقعت توتال الفرنسية، بالاشتراك مع الصين، عقداً قيمته تسعة مليارات دولار مع طهران، على تطوير حقل غاز فارس الجنوبي، على مدى عشرين عاماً، وهو أول اتفاق ضخم توقعه إيران مع دولة أوروبية بعد توقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات الاقتصادية، بما أثار شهية باقي الدول الأوروبية للدخول إلى السوق الإيرانية، عكس ما يريده الأميركيون.
يرى الأميركيون أن تدفق الاستثمارات الأوروبية على إيران بهذه الصورة المتعجلة، يمثل مكافأة غير مستحقة لإيران، التي لا تزال تصر على تطوير برامجها الصاروخية، ولا تنفذ بنود الاتفاق النووي بالدقة الواجبة.
نقلا عن صحيفة البيان