لم تنقض الليلة الأولى على اتفاق رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج وقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر في رعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حتى أعلن حزب «العدالة والبناء» الإخواني الليبي رفضه الاتفاق بدعوى معارضته عسكرة الحكم. لم يقرأ «الإخوان» الاتفاق أو لا يريدون قراءته، خصوصاً البنود التي تركّز على وقف النار (علماً أن أبرز المحاربين هو اللواء حفتر وجيشه) وعلى بناء دولة مدنية ديموقراطية تحترم سيادة القانون وتضمن فصل السلطات والتداول السلمي للسلطة. هكذا هم «الإخوان» في ليبيا كما في غيرها، يهاجمون عسكرة الدولة للوصول إلى أخونتها، كما فعلوا في مصر فسقط حكمهم فيها وأدخلوها في أحداث إرهابية تمتد من سيناء إلى أقصى الصعيد.
الاتفاق يأتي في سياق مساع دولية لطي ملفات الربيع العربي الدامية، ويؤدي الرئيس الفرنسي دوراً اعتذارياً باسم الحلف الأطلسي الذي كان تدخّله مدخلاً إلى الفوضى الليبية وبروز الإخوان الذين يعرف الليبيون ضآلة حجمهم السياسي والاجتماعي، وعلى رغم ذلك تسيّدوا الموقف بدعم الناتو وفي سياق إرادات غربية اعتبرتهم معتدلين مؤهلين لحكم البلاد العربية الثائرة، بحسب ما سوّقوا أنفسهم وسوّقهم باراك أوباما وحليفه رجب طيب أردوغان.
وقد خيّب «الإخوان» أمل الغربيين فلم يبق من داعم لهم سوى حكومة قطر: هل استشاروا الدوحة قبل إعلانهم رفض اتفاق باريس، أم أنهم واثقون من دعمها ظالمين ومظلومين كما اعتادوا واعتاد أشباههم في غير بلد عربي وأجنبي؟
سيواجه اتفاق السراج – حفتر عقبات كثيرة غير الرفض الإخواني الليبي، لكن نجاح الاتفاق أو فشله سيكون في جانب منه امتحاناً للدوحة في هذه المرحلة التي يراقب العالم فيها مدى تدخّلها في شؤون دول أخرى ودعمها جماعات إرهابية أو شبه إرهابية.
الاتفاق خطوة إلى الأمام في طريق حل الأزمة الليبية، فاللواء حفتر حقق نقلة نوعية باتجاهه إلى المجال السياسي وقبوله وقف النار ومبدأ المصالحة. لكن العبء الأكبر يقع على عاتق السرّاج في مهمته المعقّدة تجاه الجماعات السياسية الأهلية وتلك المتعسكرة في العاصمة طرابلس ومناطق الغرب. وليس الأمر مجرد ميليشيات احترفت عرقلة الحلول السياسية، فثمة جماعات قادت الثورة تعتبر إقصاءها إجحافاً. هؤلاء سيعاندون، لكن طمأنتهم ليست صعبة إذا شعروا بالثقة تجاه المصالحة وبأن مواقع سيشغلونها في الجيش أو القوى الأمنية أو مؤسسات الدولة المدنية. وإشاعة أجواء الثقة مطلوبة في مجتمع ليبي أعادته الفوضى إلى أصوله الأولى العرقية واللغوية والدينية والطائفية والطبقية والجهوية. هذا يحتاج إلى صبر ووعي وإرادة حسنة من كبار المتصالحين، كما من المبعوث الأممي غسان سلامة ومن خلفه المجتمع الدولي.
لن تتم المصالحات بسهولة، ولكن، هناك أمل يستند إلى لقاء المصالح الأوروبية الأمنية ومصالح الجماعات الليبية في إعادة تكوين وطنها على قاعدة حكم مدني ديموقراطي وسيادة قانون واحد لشعب واحد. لم تعد أوروبا قادرة على تحمُّل استقبال المهاجرين غير الشرعيين وتهديد الإرهابيين لمجتمعاتها المستقرة، ولم يعد الشعب الليبي قادراً على انتظار مصالحات لا تسمح بها صراعات الآخرين وحروبهم بالواسطة.
قالت لي مناضلة ليبية: عندما كنا في النار لم يكن أحد من هؤلاء موجوداً. لم يحضروا المعراج الصعب إلى الحرية. لقد أوصلتنا مصالح الآخرين المتعارضة إلى الوضع المرير الذي نعيشه. قالت قولها وهي تشعر بالأمل من اتفاق حفتر- السرّاج الذي سيضع في البداية حداً لتفريخ أنواع الإرهاب المتعدّدة في وطنها: الفكري والعسكري وتهريب البشر وغير البشر. الليبيون لا يزالون في النفق لكنهم هذه المرة يرون الضوء في آخر السواد.
ومثلما تسبّب اليأس باندراج زعماء ووجهاء في ألعاب الفوضى الغامضة، فإن الأمل بالمصالحة قد يدفع هؤلاء للعودة إلى ما يمكن تسميته الوطنية الليبية التي غيّبها القذافي في «جماهيريته» والمتدخّلون والإرهابيون في مصادرتهم مصائر شعب يستحق الحياة.