يزور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السعودية والكويت وقطر هذا الأسبوع مثقلاً بخلافاته مع الولايات المتحدة وألمانيا والاتحاد الأوروبي بمشاكله الداخلية وبضعفه داخل المثلث الروسي- الإيراني- التركي في سورية. ينكر أردوغان أن مشروع صعود جماعة «الإخوان المسلمين» هو مشروعه الهادف إلى ضمان طغيانه باسم النموذج التركي للإسلام المعتدل، ويدفن رأسه في الرمال ليتجنب الإقرار بأن مشروعه فشل عقائدياً وتنفيذياً. يصل أردوغان السعودية بعد زيادة القوات التركية في قطر. ثم هناك المسألة الكردية التي تؤرق أردوغان سورياً ويقايض بها عراقياً في ظل تحوّلات ميدانية، منها ما هو عسكري في سورية، ومنها ما يدخل في خانة الانفصال في دولة كردية مستقلة عبر الاستفتاء في العراق. وبالطبع، ما يلاحق أردوغان هو كابوس الداخل التركي الذي فرض عليه «عقلية الحصار» نتيجة إجراءات اتخذها ويتخذها أردوغان نفسه مثل اعتقال عشرات الآلاف وطرد جنرالات بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة ضده قبل سنة تماماً والتي يخشى تكرارها. مشكلة أردوغان أنه يتصور نفسه على طراز فلاديمير بوتين في روسيا، لكنه يفتقد الشخصية والأداء بسبب تكبيل نفسه بمشاريع لاقت الفشل مثل مشروع «الإخوان المسلمين»، وبسبب تبعثره بين هوسه بالمسألة الكردية وعشوائية تحدياته الأوروبية والخليجية وظلامية رؤيته لتركيا وانفصاماته الأميركية. فماذا يحمل أردوغان في جولته الخليجية، وماذا في تصوّره إثر التطورات العراقية والسورية؟
يصر أردوغان أن من حق تركيا السيادي أن تقرر نوعية علاقاتها مع قطر، لكن مراقبسورية
ين يرون أنه يترتب على وجود قواتها في قطر «تلويث العلاقات التركية- الخليجية، وعزل تركيا لنفسها». وتقول الرئاسة التركية إن أردوغان ينظر إلى السعودية وقطر كدولتين صديقتين، وزياراته تأتي في إطار دعم المبادرة الكويتية لحل الأزمة مع قطر.
التدرج في معالجة مواقع الخلاف بين قطر من جهة والدول الأربع التي قاطعتها بات وارداً، وكذلك وسائل تنفيذ المطالب الستة التي أدرجتها الدول الأربع. السفير السعودي لدى الأمم المتحدة عبدالله المعلمي أوضح أن «وسيلة المعالجة وكيفية تطبيق الشروط الست قابلة للبحث»، وأن الاتفاق الأميركي- القطري خطوة في الاتجاه الصحيح.
تتحدث الديبلوماسية السعودية بلغة الترغيب لقطر للعودة إلى الصف الخليجي بدلاً من أن تعيش بعزلة في محيطها الطبيعي. تفكك مجلس التعاون الخليجي الذي يضم ست دول هي السعودية والإمارات والكويت وقطر وعُمان والبحرين سيكون موضع استفادة إيران بامتياز، لا سيما من ناحية تسويق فكرة إنشاء نظام أمني جديد يضم إيران ودول مجلس التعاون والعراق يتطلب بالضرورة تحطيم النظام الأمني لدول مجلس التعاون وينصب طهران قوة كبرى على بقية الأعضاء في النظام الأمني الذي تريده. هذا الحلم راودها في عهد الرئيس السابق باراك أوباما الذي اعتمد سياسة الجفاء مع الدول الخليجية العربية واحتضن إيران شريكاً بديلاً. إنما في عهد الرئيس دونالد ترامب، قد لا يكون حلم طهران قابلاً للتنفيذ الآن لأن العلاقة الأميركية- الخليجية استعادت موقعها.
الخطير في تفكيك مجلس التعاون الخليجي هو تفكك منطقة الخليج إلى انقسام وتبعثر يؤذي مصالحها ويجعلها ضعيفة كدول مفرّقة بدلاً من تكاملها في مجلس له وزنه أمنياً واقتصادياً وسياسياً. هذا المصير لمجلس التعاون الخليجي قد يكون مرغوباً به أميركياً وروسياً وأوروبياً لغايات نفطية وغازية ولتسويق السلاح. وهو أيضاً مرحب به تركياً وإسرائيلياً وإيرانياً لأن من شأنه أن يضعف الوزن العربي في موازين القوى الإقليمية مع تركيا وإسرائيل وإيران ويلاقي بالتأكيد ترحيباً ثلاثياً من هذه الدول المتعاونة في أكثر من مجال لأن التشتت العربي يريحها فرداً وجماعة.
تركيا ضلعٌ في المثلث مع روسيا وإيران في سورية مع أن البعض في الخليج يعتبر أن لتركيا موقفاً مستقلاً يوازي الكفة الإيرانية في المثلث مع روسيا. كلاهما ينبثق من عقائدية دينية. عقائدية تركيا أردوغان تحمل عنوان «الإخوان المسلمين» الذين صادروا ثورة الشباب في تونس ومصر بالذات باسم الديموقراطية التي تتوقف عند انتخابات وتتناسى أصول الفصل بين مواقع السلطة من أجل الحكم الرشيد. عقائدية إيران التي تتسم بنموذج إنشاء قوة عسكرية ميليشياوية موازية للجيش الرسمي على نسق «الحرس الثوري» في إيران و «الحشد الشعبي» في العراق و «حزب الله» في لبنان، وما كان يُصنَع في سورية قبل إصرار روسيا على إيقافه تمسّكاً منها بالجيش السوري النظامي وليس بنموذج «الباسيج» الإيراني.
التفاهمات الأميركية- الروسية حول سورية- والعراق إلى درجة أقل- تتلاقى عند أمرين، إلى جانب أولوية القضاء على التنظيمات الإرهابية على نسق «داعش» و «القاعدة». هذان الأمران هما: أولاً، أن بوتين وترامب يعارضان، مبدئياً، ما كان يتقبله أوباما وهو نموذج فرض الدين على الدولة بموجب العقيدتين التركية والإيرانية. ولذلك إنهما يتلاقيان في ممارسة الضغوط على «الحرس الثوري» و «حزب الله» و «الحشد الشعبي»، لكن هذا لا يعني الرغبة بإطاحة النظام في طهران. ما لا يتلاقيان عليه هو تصنيف إيران و «حزب الله» في خانة الإرهاب- كما تفعل واشنطن- لأن «حزب الله» شريك فعلي وميداني في المحور الذي يضم روسيا وإيران والنظام في دمشق.
ثانياً، تزعم واشنطن وموسكو أنهما ضد التقسيم في كل من سورية والعراق. السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، تعمدت التعبير عن القلق من «تبعات قد تترتب على الاستفتاء المزمع إجراؤه في كردستان للانفصال عن العراق، مثل تشتيت الجهود المتعلقة بهزيمة داعش»، مؤكدة في الوقت ذاته تقديرها «للتطلعات المشروعة للأكراد». طهران أيضاً تزعم أنها ضد تقسيم العراق، إذ حذّر رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني من مخططات تقسيم العراق، مؤكداً أن «الاستمرار في هذه السياسة ستكون له تداعيات مدمرة»، ومخاطباً وفداً كردياً كان يزوره قائلاً إن «مشروع تقسيم العراق سيؤدي إلى تورطكم في صراعات تقضي على كل الإنجازات التي حققتموها». رئيس «المجلس الأعلى للاستفتاء» هوشيار زيباري قال، إن «الاستفتاء قد تنتج منه أخطار»، لكنه أكد أن «التوقيت مناسب» و «لسنا في حاجة إلى موافقة بغداد». تركيا تبدو غير معارضة لقيام دولة كردستان المستقلة في العراق لكنها رافضة قطعاً لأي نوع من الحكم الذاتي للكرد في سورية.
التفاهمات على مستوى ترامب وبوتين كما على المستوى التنفيذي في لقاءات أميركية- روسية أدت بحسب صحيفة «واشنطن بوست» إلى اتخاذ دونالد ترامب قرار إغلاق البرنامج السري لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) لتسليح المعارضة السورية، الذي اعتبرته روسيا مناهضاً للرئيس بشار الأسد ويضرب مصالحها. فسياسياً، يدل قرار ترامب على تغيير جذري في سياسته نحو سورية تبناه منذ توليه السلطة- وهو عدم الدعوة إلى تنحية الأسد فوراً، والتفاهم مع روسيا على خريطة الطريق لسورية. عملياً، إن ذلك البرنامج كان في عهد باراك أوباما مليئاً بالثقوب وهو بدا رمزياً أكثر منه فعلياً. المهم، أن ترامب لبّى مطلباً روسياً لوقف برنامج تدريب المعارضة السورية. ما حصل عليه في المقابل ليس معروفاً بعد، إنما هذه ليست مقايضة واحدة بل سلسلة مقايضات في إطار فن الصفقة.
الغامض في التفاهمات والمقايضات الأميركية- الروسية هو إيران الواقعة بين مكافآت موسكو لها وعقوبات واشنطن عليها. الدول الخليجية الحليفة لواشنطن تتلقى الوعود والتطمينات، إنما إلقاء نظرة ميدانية على جغرافيا الأراضي المحررة من «داعش» في العراق وسورية تفيد أن جغرافيا «الهلال الإيراني» تكتمل عملياً على رغم كل الكلام المعسول والتهديدات والعقوبات. فلا دور ميدانياً في الأفق لما يسمى «قوات التحالف الإسلامي» الجاهزة للانتشار لملء الفراغ. ولا يوجد مقعد خليجي أو عربي على طاولة التفاهمات الأميركية- الروسية، علماً أن كلاً من إيران وتركيا ضلع في المثلث مع روسيا.
الإجراءات الأميركية نحو كل من إيران و «حزب الله» تتمثل في سياسة يتم تنسيقها بين وزارة الخزانة الأميركية ووزارة الخارجية ووزارة العدل- إلى جانب وزارة الأمن الوطني «Homeland Security»- وهذا يعني أن في ذهن إدارة ترامب تنفيذ ما بدئ بتنفيذه في إدارة أوباما من إجراءات تطوّق إيران و «حزب الله» مالياً وسياسياً وبمحاكمات إذا برزت الحاجة عقاباً لها على برنامج الصواريخ الباليستية وبتهمة دعم نشاطات «خبيثة» لإيران. إنما لا علاقة للاتفاق النووي بأي من هذه اللغة التصعيدية، إذ إن إدارة ترامب أبلغت الكونغرس أن طهران تلتزم الاتفاق النووي الذي كان دونالد ترامب تعهد تمزيقه أثناء الحملة الانتخابية.
الفرز الميداني مستمر وعناوينه ديموغرافية ذات صبغة طائفية. الكل يدرك أخطار التغيير الديموغرافي الذي يُفرَض في الأماكن المحررة من «داعش» في العراق وسورية، لكن الأكثرية تدفن رؤوسها في الرمال، وكأنه بسحر ساحر سيتم اقتلاع جذور بذور «داعش» وأمثاله وسيتبخر التطرف في الطبخة الدولية والإقليمية للعراق وسورية، ومعه ستتبخر مأساة تدمير شعبين وبلدين عربيين أساسيين في المعادلة الاستراتيجية مع إيران وإسرائيل وتركيا.
كي لا تقع أخطاء مصيرية أكبر، قد يكون مفيداً لجميع اللاعبين في المنطقة العربية الأخذ بالمثل القائل: لا تدع الغابة تضيع عليك وأنت تحدق فقط في الشجرة.