جولات متتابعة لوزراء خارجية غربيين في المنطقة، كان آخرها زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان السعودية والإمارات والكويت و قطر ، فما الذي تغير في مشهد الأزمة الاقتصادية والسياسية القطرية؟ لا شيء تقريباً، فالمطالب هي هي كما يقول الحلفاء، والحل كما تؤكد الدول الأربع محمي ضد التدويل والأقلمة!
قطر سعت منذ بدء الاجراءات لعسكرة الأزمة من جهة وتدويلها من جهة أخرى، وهذا ما أدخل لاعبين إقليميين مثل تركيا ولاعبين دوليين مثل أميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا أطرافاً أصيلة في الأزمة، تحفر فيها وتدفن بلا كلل أو ملل.
القطريون فعلوا ذلك لأسباب عدة، ففي ما يتعلق بالعسكرة وجدت الدوحة أن هذه الأزمة هي الفرصة الأنسب لتوثيق العلاقة العسكرية مع تركيا بما يخدم مشاريع قطر المستقبلية في المنطقة. ما كان القطريون قبل هذه الأزمة قادرين على تفعيل الاتفاق العسكري المشترك الذي وقعوه مع الأتراك عام 2015 إلا تحت ظلال هذه الفرصة التي لا تتكرر! جاءوا بالأتراك لتحقيق مشروعهم القائم وأمنياتهم القديمة في ما يشبه الحركة تحت الطاولة، أما فوقها وتحت أنظار عدسات كاميرات التلفزيون فقد أرادوا بعث رسالة في غاية الوضوح للمجتمع الدولي مفادها أننا دولة ضعيفة وصغيرة، وقد جئنا بالأتراك لأننا مهددون بالغزو العسكري من جيراننا، وعلى الأمم المتحضرة كافة ان تقف معنا ضد الاجتياح العسكري الذي بات وشيكاً.
تركيا العثمانية على الضفة الأخرى لم تكن لتفوت هذه الفرصة، فكما أن لقطر أجندتها الخاصة التي تتقاطع مرة مع السياسات التركية وتفترق عنها مرات، لتركيا كذلك أجندة خفية للوصول إلى منطقة الجزيرة العربية من خلال ركوب الطموح القطري الجامح، المغمض العينين أحياناً، المفتوح بلا بصيرة احياناً أخرى. تركيا العثمانية الأردوغانية لم تستطع طوال السنوات الـ90 الماضية، والـ15 الماضية منها على وجه التحديد، أن تنسى أنها كانت تحكم الإنسان العربي في يوم من الأيام، وكلما لامس هذا الحنين العميق رفض أوروبا محاولات أنقره الانضمام لها، انفجر بالمؤامرات وخطط الغرف المظلمة.
أما تدويل الأزمة، فقطر سعت إلى هذا الأمر، وإن كان يتعارض مع الرغبة التركية، لأربعة أسباب في تقديري. الأول استجلاب الحل من العواصم الغربية لقطع الطريق على الدول الاربع، وتفويت فرصة فرضها حلها الخاص. يدرك القطريون في هذا الصدد أن صياغة الحلول الغربية يمكن تطويعها وتوجيهها في حال تم خلط الأوراق السياسية والعسكرية والاقتصادية في مهب ريح واحد، ويؤمنون أن المصالح، وأعني هنا المصالح التجارية تحديداً، هي الوحيدة القادرة على نحت حل دولي ينتصر لقطر ضد خصومها.
الثاني… تعريض المبادرة الكويتية إلى ضغوط غربية لتخرج في النهاية في شكل يتناسب مع الرؤية القطرية. القطريون يعرفون أن أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح لن يقدم مبادرة صلح تبتعد كثيراً عمّا تم الاتفاق عليه في الرياض عامي 2013 و2014، لذلك عمدوا لأن يسلبوا الديبلوماسية الكويتية استقلاليتها، ويدخلوها في مناورات الرحلات المكوكية لوزراء الخارجية الغربيين الأخيرة.
الثالث… فتح خطوط جديدة وغير متوقعة للغرب بصفته الانتهازية وتوريطه بملاحقة السراب الاقتصادي في صحراء السياسة. الغرب يقول هذه الأيام إن على قطر أن تساهم في تجويع الوحش، وقطر في المقابل ترسل الرسالة تلو الرسالة للغرب من أجل إثارة الوحش في داخله، ومن ثم إشباعه بالطريقة التي تراها الدوحة!
والرابع… الاستفادة قدر الإمكان من التباين الثقافي بين دول الخليج والغرب، فما هو غير مقبول هنا ومستنكر جداً بحكم طبيعة العلاقات الإنسانية والبناءات الثقافية للمجتمعات الخليجية، قد يكون أمراً عادياً في الدول الغربية، ولا يستدعي الالتفات له والتفاوض عليه!
نجحت قطر في التدويل، لكنها لم تجن ثماره، فما زال تنفيذ الاجراءات مطلوباً والأشقاء الأربعة على موقفهم الصلب! وأما ما تنقله الجزيرة والإعلام التابع لها داخلياً وخارجياً منذ أسابيع على أنه اصطفاف أميركي ودولي مع الدوحة من خلال اجتزاء تصاريح المسؤولين الغربيين ووضعها في سياقات مختلفة، فما هو إلا «وهم ظاهري» نتيجة عدم فهم كامل للعلاقة القطرية الغربية. القطريون يتعاملون مع الغرب بمبدأ الملف الواحد، أما الغرب فيتعامل مع قطر برسائل مختلفة تتناسب مع سياسة «الملفات المنفصلة». فعندما نسمع مثلاً مسؤولاً أميركياً يتحدث بلطف عن قطر، فإنما هو يتحدث عن قطر (قاعدة العديد) أو قطر (الطرف المهم في سوق الغاز العالمية) أو قطر (الدولة المهمة في استقرار مجلس التعاون الخليجي).
لكن عندما نسمع مسؤولاً آخر ينتقد قطر بشدة وينعتها بأسوأ الأوصاف، فهو يتحدث عن قطر(تمويل الإرهاب ودعمه).
هذا الوهم الظاهري هو ما يدفع قطر حالياً نحو عدم الاستجابة السريعة لمطالب أشقائها، الأمر الذي سينعكس سلباً عليها بكل تأكيد عندما يتم اختصار كل الملفات الغربية في ملف واحد وهو تمويل الإرهاب، إما بسبب تزايد انتقال الإرهاب المدعوم قطرياً إلى المدن الغربية كما حدث مع الشاب الليبي الذي خرج من بين الفوضى القطرية في ليبيا ليفجر الأبرياء في مانشستر البريطانية، أو بسبب إصرار الأشقاء الأربعة على حماية موقفهم وإبقائه بعيداً من المزايدات الإعلامية والسياسية.
* كاتب سعودي.