يبقى المشهد القطري في صدارة الإشكاليات العريضة للشرق الأوسط وللخليج العربي إلى حين تقوم قطر بتصحيح مساراتها، وهو ما يبدو أنه ليس بقريب، لاسيما في ضوء التوجهات الأميركية التي شهدناها في الأيام القليلة المنصرمة.
على أنه قبل الحديث عن تصريحات وفعاليات زيارة وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون إلى الدوحة، ينبغي تذكير القارئ بأن الولايات المتحدة الأميركية معروفة تاريخياً بما نسميه ظاهرة «تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة»، بمعنى أنها تفعل الشيء وعكسه في الوقت عينه، وما تطالب به علناً ذات مرة، تمضي وراء الكواليس مؤيدةً عكسه، وهو ما يعتبره البعض ضرباً من ضروب الازدواج الذي يتسبب لها عادة في الاختصام من رصيدها الأدبي لدى الأمم والشعوب حول العالم.
وقبل بضعة أيام كانت صحيفة «نيويورك ديلي نيوز» الأميركية تكشف عن تورط قطر في الأعمال الإرهابية التي جرت على أراضي الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001. الاتهامات الموجهة لقطر ليست حديثاً لصحف ذات أوراق صفراء تعنى بالربح والإثارة، وإنما جاءت نقلاً على لسان «ريتشارد كلارك» رئيس لجنة مكافحة الإرهاب السابق، والذي أشار إلى إيواء قطر لواحد من أخطر الإرهابيين في العالم وحمايته وحرمان أجهزة الأمن الأميركية من القبض عليه. من كان يقصد كلارك بقوله هذا؟ وما هو أصل القصة ومعناها ومبناها؟
في منتصف تسعينيات القرن المنصرم استضافت قطر على أراضيها عشرة من إرهابيي «القاعدة» المطلوبين للتحقيق في أميركا، وفي مقدمتهم «خالد شيخ محمد»، المصنف بأنه ثالث أخطر أعضاء التنظيم. في ذلك الوقت حمل مدير مكتب المباحث الاتحادية (FBI)، «لويس فريه»، أوراقه ومضى إلى الدوحة مطالباً بتسليم الرجل القاتل المحترف، والمشتبه بتورطه في مؤامرات إرهابية على الأراضي الأميركية. كان خالد شيخ محمد يعمل موظفاً في الأشغال العامة للمياه في قطر، والتي أدعت أنها لا تستطيع إيجاده، وفي الواقع كانت تقوم بنقله سراً إلى خارج البلاد، بينما فرقة من المباحث الفيدرالية تنتظر في أحد فنادق الدوحة.
يؤكد ريتشارد كلارك أن لدى القطريين تعاطفاً تاريخياً مع الإرهابيين، ويشير إلى أحد الوزراء وهو فرد من العائلة الحاكمة له علاقات قوية بتنظيم «القاعدة»، وهو من كان يرعى خالد شيخ محمد.
كلارك لا يسمي الوزير، في حين أن الجميع يعرفه، والحديث هنا عن «عبد الله بن خالد»، وزير الداخلية القطري صاحب المزرعة الخاصة الشهيرة والمعروف بتعاطفه وتعاونه مع التنظيمات الإرهابية، والذي التقى «ابن لادن» على الأراضي السودانية في 10 أغسطس 1996.
خطوات تيلرسون وتصريحاته الأخيرة في الدوحة، معانَدة وازدواجية أخلاقية فادحة، تفتح الأبواب واسعة للتصديق بأبعاد الفكر الذي يربط بين واشنطن والدوحة.
يكشف «كلارك» عمق تورط قطر في الإرهاب الذي أودى بحياة ثلاثة آلاف أميركي في ساعة واحدة، وفي الوقت ذاته يتحدث تيلرسون عن توقيع اتفاقية لمكافحة الإرهاب مع الحكومة القطرية! بل يمضي إلى دعوة دول المقاطعة للانضمام إلى المذكرة المزعومة، في خطوة تساوي بين القاتل والمقتول، الإرهابي والضحية! ثم يتساءل الأميركيون مجدداً: لماذا يكرهوننا؟ السؤال الحائر من دون إجابة بعد نحو عقدين من الزمان على الحادث الإرهابي المشؤوم في نيويورك وواشنطن.
يعن لنا أن نتساءل: أي وضوح ذاك الذي وصف به تيلرسون المشهد القطري؟ وعن أي منطقية يتحدث؟ هل عن وضوح علاقة الدوحة بالإرهاب الممنهج والمنظم لعقدين مضيَا أم عن الأدوار الهدامة التي لعبتها «عاصمة الشر» طوال سنوات الربيع المكذوب والمغشوش؟
إن كان وزير خارجية الدولة التي تعتبر الإمبراطورية المنفردة بمقدرات العالم لا يعلم فتلك مصيبة، وإن كان يعلم ويتماهى أو يتغاضى فالمصيبة أعظم وأكثر هولاً، وواشنطن في طريقها لمحو أي ثقة بينها وبين دول الخليج والعالم العربي إن سارت على هذا النهج.
ما يجري في الداخل الأميركي يستحق وقفة تأمل وتساؤل عميق: من يصنع القرار هناك؟ وهل تيلرسون يعمل في فضاءات مغايرة للتوجهات الرسمية لإدارة ترامب أم أن المشهد الأميركي برمته ليس إلا توزيع أدوار، ولدى ساكن البيت الأبيض نواياه الخاصة التي لا يسبر غورها أحد في العالم العربي حتى الساعة؟ ثم، وهذا هو الأهم، لماذا لا تتعظ واشنطن من دروس التاريخ وما جرّته عليها سياساتها من دعم خفي أحياناً وظاهر أحياناً أخرى للجماعات الأصولية حول العالم؟
يطلق الباحث والكاتب الأميركي الشهير «غور فيدال» على أميركا تسمية «الولايات المتحدة فاقدة الذاكرة» (United States of Amensia)، إذ تبدو مدفوعة بدافع قسري يجعلها تكرر أخطاءها دون النظر لأحداث التاريخ، ومرارة تجاربها معه، وكأنها وإدارتها فرع من أفرع عائلة البربون الفرنسية الشهيرة التي لم تعِ شيئاً من التاريخ ولم تتعلم شيئاً من الذي جرى عبر التاريخ.
إنك تستطيع خداع العالم كله بعض الوقت، لكن لن تقدر أن تخدع الناس كل الوقت.. المصداقية والموثوقية قيمة كبرى في العلاقات بين الدول. تخسر واشنطن كثيراً إن سارت على هذا الدرب، في الحال وفي الاستقبال.