«الذي لم أتمكن من استيعابه هو لماذا صمتت هذه الدول الأربع وغيرها طوال هذه السنوات على أذى قطر؟» تساؤل طرحه أحد الأصدقاء قبل أيام، وهو سؤال يتردد على ألسنة الكثيرين. مع مشروعية طرح هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى وجود محطات تم التحدث فيها مع القطريين حول سلوكهم السياسي وجرأة قنواتهم المستأجرة أو المملوكة على تلفيق الأكاذيب ودعم «المعارضين» في الخارج وتجنيسهم لتنفيذ أجندات تضر بمصالح دول الخليج وغيرها. كان الود وحسن الظن وتغليب المصالح العليا هو العامل الأهم لدى الدول التي تستقبل كل هذا الغثاء، لذا كانت السرية سيدة الموقف. فضلاً على أنه في كل مرة ينتهي الأمر بفشل الخطة التخريبية يحدث نوع من القناعة والثقة لدى الأطراف المتضررة بأن حكومة قطر ربما استوعبت خطورة هذا السلوك وأنها حتماً ستتوقف عنه، لكننا نتفاجأ بعودة الذيل إلى اعوجاجه وتبدأ مرحلة جديدة من المنغصات.
ان يفترض بالطبع أن يتوقف كل شيء لدى الطرف القطري مع فشل دفع خروج السعوديين إلى الشوارع والمحدد وقتها يوم الجمعة ١١ آذار (مارس) ٢٠١١ أي بعد أحداث تونس ومصر بأسابيع. تلك الأحداث التي أطاحت بزين العابدين بن علي الرئيس التونسي وحسني مبارك رئيس جمهورية مصر العربية. لقد صنعوا «ماركة» تجارية لذلك اليوم عندما سموه «يوم حنين» وظن المخططون والداعمون له أنه سيهوي بحكومة المملكة العربية السعودية. على الأرض وفي شوارع المدن لم يخرج أحد وأثبت الشعب السعودي صلابته وأصله وولاءه للأسرة الحاكمة ووحدة البلاد. وكما نعلم، لم يتوقف التحريض واستمرت قطر في تمردها وبحثها عن طرق وآليات جديدة ذلك أن النية المبيتة لإسقاط المملكة راسخة كما سمعنا في ما بعد في تسجيلات «الحمدين» مع الرئيس معمر القذافي. طفح الكيل بالطبع مع عدد من الدول العربية وحدث ما حدث في ٢٠١٣ و٢٠١٤ واليوم في ٢٠١٧ وأتت ردود الأفعال غاضبة وحاسمة وكبيرة في تأثيرها في دولة قطر ومشاريعها التنموية. هذا ما لم يحسب حسابه أو يتوقع حدوثه أحد داخل فريق الـ«ثنك تانك» القطري.
يبقى هنا محاولة لتحليل مجمل أضرار ولعلها ربما «فوائد» السير خلف هذا الخط الجنوني لقطر والتعامل الراقي والصبر الطويل الذي مارسته الدول الأربع والذي امتد عقدين من الزمن. أولى فوائد هذا الصبر هي اطلاع العالم على أن المملكة ومصر والإمارات والبحرين وبقية المتضررين من التآمر كانوا يغلبون المصالح العليا ويتجنبون الإضرار بالشعب القطري المخطوف رغماً عنه. الفائدة التالية أن الصبر على الأذى وعدم الاستعجال في ردود الفعل مكن الدول الأربع من الحصول على كل المخططات وخيوط التآمر وبكل وضوح وبالتالي التحدث مع العالم بأسره عن تفاصيل لم يتخيل أكثر المتشائمين حول دور قطر وجودها، بل وتوثيقها. مخططات عدوانية فاضحة ونقض للعهود والمواثيق وتحايل على ما يتم الاتفاق عليه ووقاحة في المبررات لا تقبلها عقول تلاميذ في مدرسة ابتدائية. استعداء مندفع ومتهور يترك خلفه كل القرائن والشواهد الفاضحة في سبيل تحقيق هدف واحد وهو الإضرار بالأشقاء الذين لم يفكر منهم أحد يوماً بإلحاق الأذى بأي دولة قريبة أو بعيدة ناهيك عن دولة قطر.
من فوائد هذا الصبر كشف العملاء من مواطني الدول المتضررة ممن قبلوا التعاون مع حكومة قطر لتنفيذ أجنداتها. مجموعة من الدعاة والكتاب والمثقفين خرجوا على حقيقتهم عندما ظهروا بالتصوير الموثق وهم يستقبلون الهدايا الغامضة داخل شنط يدوية سوداء. البعض ربما لم يسئ الظن بما شاهده غير أن ترددهم في التعليق على قصص الخيانة التي ظهرت في ما بعد ولا زالت تتكشف كل يوم أثبت وجود عملية الشراء والبيع. حتى قبل انفجار الأزمة كان هناك عمل دؤوب وممنهج لإضعاف المملكة من خلال محاولات مستميتة لتخريب علاقاتها بدولتي مصر والإمارات اللتين تعتبران الأقوى تحالفاً مع المملكة. هناك العمل الممنهج على محاربة الإعلام السعودي عبر النيل من أقوى ذراعين يمتلكهما، وهما التلفزيون والصحف. فقناة «العربية» أصبحت «العبرية» بينما «الجزيرة» هي المهنية العادلة بنظرهم وصحف المملكة هي الأخرى تخدم أجندات، وكتاب الرأي خونة ضد الدين والوطن. كل عام يتم تجييش الناس إلى مقاطعة قناة MBC الرائدة لأنها الأولى مشاهدة على مستوى العالم العربي. معظم القيادات خلف هذه المحاولات مرتبط بعلاقات مع حكومة قطر وعلى رأس هؤلاء مستقبلو تلك الشنط السوداء. الحقيقة أن ما تعرضت له المملكة ومصر والإمارات تحديداً يفوق الخيال، ومع ذلك لم ينجح مع هذه الحملات أحد.
الفوائد هنا تختلط بالأضرار، إذ وعلى الرغم من كل ما أشرت إليه، بقيت السعودية ومصر والإمارات والبحرين كيانات صامدة لم تحرك بها هذه المنغصات شيئاً. لكن يجب التنبه إلى حقيقة تأصل بعض الأفكار في عقول العامة. فمثلاً تولدت بعض الشكوك لدى بعض الناس حول مصداقية الإعلام السعودي وتم تصنيف عدد من الكتاب الشرفاء في قوائم العملاء الذين لا يملكون أي وطنية تجاه بلادهم.
الأزمة كشفت الأقنعة وفضحت أكاذيب وتهاوت روايات. فالإعلام السعودي الذي تولى زمام التعامل مع موضوع قطر والمتهم بالعمالة للغرب خرج قوياً وشرساً ودقيقاً في تناوله التفاصيل كافة. مواقع التواصل أخرجت شعباً موالياً قادراً على لجم أي متحرش يسعى إلى النيل من وحدة البلاد. حتى السخرية والازدراء بمؤامرات الدوحة والتي انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي كانت ذكية ولماحة ومضحكة بالطبع. ومما يحسب للمملكة وأدواتها المتعددة أنها تجنبت الدخول في الأعراض وعزلت الشعب القطري عن حكومته في كل طروحات النقد وإيضاح الخيانات.
لعل هذه الأزمة تعود بالفائدة الأهم على الشعب القطري الشقيق وهي التخلص من السياسة الخرقاء التي قادت بلاده إلى هذا النفق. يتحدث بعض المحللين الاقتصاديين عن أرقام قد تصل إلى ٥٠٠ بليون دولار تم إنفاقها إما في أماكن الصراعات كعتاد وأسلحة أو لشراء ذمم كتاب ومعلقين أو لتأسيس منابر إعلامية جديدة ناهيكم بالطبع عن تكاليف قناة «الجزيرة» الباهظة والتي لا يعلن معها أحد بخلاف شركة «غاز قطر».
قطر تستحق أن تتجاوز سنغافورة في معظم المؤشرات التنموية، البشرية منها والاقتصادية، لو كان التركيز يصب في عوامل التنمية بدلاً من خلق المشكلات والسعي لإسقاط الحكومات. وصول الأزمة إلى هذا المستوى من المكاشفة وتسريب الوثائق وما قد يخرج مجدداً واقتراب الموضوع إلى مجلس الأمن ومحكمة الجنايات الدولية لن يساعدا المتآمرين في قطر. الحكومة الحالية غير قادرة على قبول الشروط التي وضعتها دول المقاطعة وغير قادرة على رفضها.
قد تصدر عقوبات قضائية على بعض المسؤولين وقد يتم الحكم في تعويضات مالية لضحايا الدعم القطري وهو مؤلم غير أن هذا الألم وأقصد دفع التعويضات المالية هو ألم اليوم الواحد الذي سيتوقف أثره في الغد.
في كل الأحوال، وكيفما انتهت هذه الأزمة التي ما كان لها أن توجد، دراسة الحال القطرية في مناهج العلوم السياسية غنية ولا يوجد لدي شك بأنها ستتصدر قائمة الحالات الأسوأ أمام طلاب وطالبات التخصصات السياسية في جامعات العالم.
* كاتب سعودي