احتفل بعض المعرّفات المجهولة في «تويتر» وعدد من الأسماء الحقيقية المحسوبة على حكومة الدوحة بانتهاء اجتماع القاهرة مساء الأربعاء الماضي، الذي عُقد لمناقشة رد حكومة قطر على مطالب الدول الأربع، من دون الإعلان عن عقوبات جديدة ضد قطر. الفكرة من هذه الاحتفالية هي زرع الشعور العام لدى المواطن القطري بأن موقف قطر ينتصر ضد مواقف الدول الأربع. هذا النوع من التهريج ليس سوى جزء من منهجية زرع الأوهام التي تعيش عليها تلك الحكومة. ما خطورة العقوبات الإضافية التي يمكن الدول الأربع إضافتها لما هو قائم من العقوبات منذ شهر؟ الواقع أن اختيار العقوبات المطبقة منذ شهر جاء بذكاء وحنكة لافتة. كان من الممكن على سبيل المثال أن تبدأ الدول الأربع بالتهديد بعقوبات مثل سحب عضوية قطر من مجلس التعاون ومن جامعة الدول العربية كمرحلة أولى، على أن تتبع ذلك عقوبات أشد وأقوى، وبالمناسبة هذه هي الخطوات التي توقع الكثيرون الأخذ بها من قبل المؤتمرين في القاهرة قبل ثلاثة أيام. لكن لو فعلت هذه الدول ذلك، وأقصد البدء في معاقبة قطر بسحب عضويتها من المجلس والجامعة لكان الوصول إلى عقوبات لاحقة ومؤلمة مثل قطع العلاقات وغلق الحدود ومنع التحليق فوق الأجواء صعباً ومعقداً بعض الشيء. السبب بسيط، وهو السماح لعشرات الأصابع الخارجية بالتدخل، ومنحها الوقت والفرص لتشتيت أسباب الأزمة وتعقيدها.
على أن العقوبات القادمة على قطر مختلفة، وبسبب طبيعتها فهي تختلف عن مجرد إجراءات يُتفق عليها في اجتماع معين. نعم قد يتم إقصاء قطر من المنظمات الإقليمية العربية وربما الدولية، على أن الأخطر هو ما يتعلق بالقضايا العدلية. لا يوجد أدنى شك في أن محكمة الجنايات الدولية ستستقبل عشرات بل مئات اللوائح المرفوعة من ضحايا الاقتتال في ليبيا وتونس ومصر وسورية وغيرها. حكومة قطر الغارقة في ارتكاب الأخطاء منذ عقدين من الزمن عندما انقلب الابن على الأب، زودت كل أنواع الميليشيات الإرهابية التي تحمل السلاح هناك بالمال والسلاح والدعم المعنوي، وهذه أمور موثقة لن تخضع لمعرِّفات «تويتر» الوهمية لنفيها. هناك أيضاً معلومات تم تسريب النزر اليسير منها، وتتعلق بـ «خيانة» بعض الأفراد من حملة قطر المشاركة في التحالف العربي. ما نعرفه حتى الآن على رغم عدم توثيقه، هو وجود تعاون بين قطريين وحوثيين قاد إلى معرفة الحوثي الإحداثيات اللازمة لإطلاق مقذوف صاروخي على تجمع لقوة إماراتية، وتم ذلك بالفعل وتسبب بمقتل عشرات من هذا التجمع. مثل هذا الفعل لو تم توثيقه سيقود الدوحة إلى دهاليز مظلمة جديدة قد لا تخرج منها معافاة. هناك بالطبع قضية الدعم لمن يسمون «ثوار البحرين» وهذه حقيقة لا غبار عليها، ولا أتصور أن تنساها حكومة المنامة. أنا أتحدث عن ملاحقات قانونية ولوائح ادعاء وتعويضات قد تصل إلى البلايين.
أما في ما يخص مصر فالقوائم تطول وتتسم بالوضوح. مواقف قطر من المنظمات الإرهابية في سيناء ودعمها السخي بالمال والسلاح حقيقة اعترف بها وزير خارجية قطر بلا تردد، وأوضح ذلك في إحدى مقابلاته في سياق التعريف بالمنظمات الإرهابية والفرق بينها وبين الحركات «النضالية» الشعبية. وزير الخارجية القطري وتصريحاته «الدسمة» التي تدين سلوك حكومته، مثل وصفه «دواعش» سيناء بالحركات النضالية، ستصبح مواد رائجة في أروقة العدالة في عدد من المحاكم العالمية. هذا وغيره يدل على أن الأزمة مع قطر ليست إلا في بداياتها، وأن الطريق طويل وشاق ومكلف لهذه الدولة الحديثة، التي خلطت أولوياتها بطريقة لم يسبقها إليها أحد.
ولبعض المحتفلين بالنصر بعيد انتهاء لقاء القاهرة المشار إليه، نتساءل ما الذي تغير بعد هذا اللقاء في تكاليف رحلات الطيران القطرية المتجهة من الدوحة إلى المدن الأوروبية المطلة على البحر الأبيض المتوسط ومدن شمال أفريقيا ووسطها وجنوبها؟ هل ستستمر الشركة في تغطية تكاليف هذه الرحلات الطويلة، خصوصاً أنها غير قادرة على رفع أسعار التذاكر بحكم وجود التنافس الكبير مع الناقلات الأخرى العملاقة والمجاورة؟ هل ستعيد هذه الشركة رحلاتها المتوقفة إلى مطارات الرياض وجدة والمدينة والدمام وأبها ودبي وأبوظبي والقاهرة والإسكندرية وشرم الشيخ؟ كيف سيتم تعويض أضرار هذا الهبوط المفاجئ في عدد مستخدمي مطار حمد الدولي؟ مَنْ سيُقدِم مِن التجار والشركات العالمية ومديري المحافظ الكبيرة على الاستثمار في السوق العقارية والخدماتية في قطر مقابل ضياع الفرص عليهم في اقتصادات الدول الأربع فضلاً عن عدم وضوح مستقبل هذه الدولة؟ هل ستستمر حكومة قطر في السحب من صندوقها السيادي لدعم المنتجات الغذائية الاستهلاكية بحيث لا يدفع المواطن القطري أي إضافات مقابل قيمة النقل والتكاليف الأخرى التي طرأت بسبب إجراءات الدول الأربع؟ إلى أي حد سترتفع تكاليف ما بقي من المشاريع الإنشائية المتصلة بالتجهيز لنهائيات بطولة كأس العالم ٢٠٢٢ سواء الملاعب أم الفنادق والسكن والمواصلات؟
اللجوء إلى تركيا وإيران بهذا الشكل المخجل لن يساعد قطر، بل سيزيد عليها الحمل والأعباء المالية والاجتماعية. الشعب القطري وخلافاً لمن يغرد بالنيابة عنه، غير قادر على سلخ هويته القبلية العربية، واستبدال عاداته وتقاليده وأعرافه، ناهيك عن نسبه وترابطه العائلي الوثيق مع دول الجوار. لهذا ولأسباب أخرى تحدثنا عنها هنا والكثير منها لم نلامسه في هذه العجالة، أميل إلى رأي الأستاذ عبدالرحمن الراشد (الدوحة ستتنازل في الظلام، «الشرق الأوسط»- الخميس ٦ تموز- يوليو ٢٠١٧) الذي يخلص إلى الاعتقاد بأن قطر ستعود إلى العقل والمنطق وستخضع للغة الأرقام ولكن بطريقتها الخاصة. يقول الراشد ما معناه أن الدوحة ستعود في الظلام كما فعلت في 2014 إما لحفظ ماء الوجه أو لأي سبب داخلي وحسابات لا نعرفها داخل البيت الحاكم هناك. الفرق بين عودتها في «الظلام» في عام ٢٠١٤ واليوم، أن اليوم لا يحتمل التأخير. في المناسبة السابقة كانت العقوبة الوحيدة هي سحب السفراء. اليوم قطع كامل للعلاقات واغلاق كامل للأجواء والحدود ليس من المملكة فقط بل من أربع دول مهمة في محيطها الجغرافي. تعمدت وضع مفردة الظلام في الفقرة السابقة بين قوسين، لأن قطر هذه المرة لن تتمكن من العمل في الظلام. من أهم شروط الدول الأربع لوقف الاجراءات المفروضة التوثيق ومتابعة تحقيق الوعود. الثقة مفقودة في حكومة قطر بعد أن خانت العهود والمواثيق في السنوات القليلة الماضية. لذلك فظلام ٢٠١٧ سيختلف عن ظلام ٢٠١٤، وستضطر قطر إلى الخضوع والتوقيع تحت أضواء التصوير وثريات القاعات الضخمة وأمام شهود ومراقبين من معظم وكالات الأنباء العالمية.
هل ما كان حمد وحمد يحلمان به من الأوهام طوال السنوات العشرين الماضية مساوٍ لكل هذا الإذلال قبل أن يكون مساوياً للأضرار الاقتصادية الهائلة، فضلاً عن إحداث هذا الشرخ بين شعوب المنطقة وشعب قطر؟ حتماً لا، لكنها الأحلام التي امتزجت بذلك الكم الوافر من الأحقاد وغياب القيم الرفيعة التي سيطرت على السلوك وكانت الشعار الملازم لكل التصرفات الشاذة. إنه الهروب من الفشل المبكر، والانغماس في حالات وصلت إلى إراقة الدماء البريئة وإطالة أمد الحروب ووقوع الضحايا في مناطق عربية عدة. سيشهد التاريخ وربما للمرة الأولى في هذه المنطقة من العالم ميلاد حكومة خليجية حديثة وغنية بمواردها الطبيعية انتهى المطاف برؤوسها إلى الجلوس أمام القضاء العالمي للدفاع عن الضلوع في جرائم قتل ودعم أطراف من كل صوب بهدف إزهاق آلاف من النفوس البريئة.
نقلا عن صحيفة الحياة