أغلى ما عند «أهل البادية» ماشيتهم والحفاظ عليهم من «الرعيان»، الذين توكل إليهم مهمة المحافظة عليها في المراعي، وعدم انشغالهم عنها بألعاب غير مجدية، ولكنها محببة لهم، ومنها مطاردة نوع من الطيور الدارجة، التي تغريهم بمطاردتها والإمساك بها، ولكن عند الاقتراب منها تطير ولا تذهب بعيداً، ما يزيد الرغبة في مطاردة ذلك الطائر مرة أخرى، والنتيجة ضياع الوقت، وضياع الأمانة التي أؤتمن عليها الراعي، والنتيجة الحتمية ضياع الماشية.
لا أبالغ إذا قلت إن قناة الجزيرة إحدى أذرع قطر الإعلامية، هي كما «ملهية الرعيان» في جذب المشاهدين إليها بحثاً عن الحقيقة، ولكن النتيجة النهائية، إذا فكرت فيها وراجعت مدى الاستفادة من مشاهدتها، لا تجني إلا عبثاً وضياع وقت، ولكن القناة التي أنشأت في منتصف تسعينات القرن الماضي كان لظروف نشأتها علاقة بالمتغيرات السياسية الداخلية بقطر ذاتها، ووصول أمير جديد من طريق ما يشبه الانقلاب الأبيض على والده. لذا، أصبحت قناة الجزيرة إحدى أدوات ذلك العهد لكسب مشروعية ذلك العمل السياسي، الذي قام به الأمير السابق الشيخ حمد.
القناة بدأت بظروف إقليمية معقدة، وكثير من الجماهير الغاضبة وجدت في سقفها المرتفع مساحة للتعبير عن همومها، ولكن المتابع لهذه القناة وخطابها الإعلامي يجد أنها تدغدغ مشاعر الرأي العام العربي وبطريقة هي أشبه بالحرب النفسية ضد المجتمعات العربية، فهي تعمل منحازة إلى تيار الإخوان المسلمين وتصويرهم بأنهم المنقذ من حالة الضعف العربي، وتبني محور الممانعة كما تدعي في لبنان والمقاومة في العراق إبان احتلاله في 2003 وأثناء الاعتداء علي غزة، وفي دراسة لدائرة المطبوعات الأردنية أعدتها نبال الخماش عن قناة الجزيرة وتغطيتها للحرب على غزة تقول الدراسة إن قناة الجزيرة فتحت شاشتها يومياً للمتحدث الرسمي للخارجية الإسرائيلية ولمعلقين إسرائيليين فضلاً عن المتحدث الرسمي للجيش الإسرائيلي، وساقوا تبريراتهم للعدوان من وجهة نظر إسرائيلية، وأجزم أن هذه القناة هي أول من أدخل صوت هؤلاء المسؤولين إلى منازلنا العربية وكلنا يعرف أنه قبل هذه الحادثة كان استضافة محللين من إسرائيل بمثابة خط أحمر بالنسبة للإعلام العربي، فكيف نفهم أدعاء القناة بأنها صوت الشارع العربي وهي تقوم بمثل هذه الممارسات المتناقضة بادعاء المهنية الإعلامية، في المقابل كلنا يتذكر كيف كانت خطابات أسامة بن لادن زعيم القاعدة الإرهابي حكراً على هذه القناة فقط وكأنها الناطقة الرسمية لذلك التنظيم.
قناة الجزيرة تأتي بالشيء ونقيضه في الوقت نفسه، ما يدلل على أنها كانت أداة فعالة في نشر مشروع الفوضى الخلاقة في المنطقة، وهي مازالت تمارس هذا الدور، وكلنا يعلم بأن قطر في الـ20 سنة الأخيرة تحاول أن يكون لها دور في المشهد العربي، ولكن تخذلها الجغرافيا والإدارة البشرية في سياستها الخارجية وهيكلية النظام ذاته، فهذه القناة مثلاً، التي تدعي أنها تنشر الديموقراطية والحرية، لم نسمع منها يوماً نقداً للشأن السياسي أو الاجتماعي في قطر، بل كلنا يعرف أن العنصر القطري البشري في هذه القناة مرتبط فقط في نشرات الأحوال الجوية وبعض البرامج الرياضية.
وعودة إلى دراسة دائرة المطبوعات الأردنية التي أظهرت تناقضاً واضحاً بين تغطية قناة الجزيرة الناطقة بالإنكليزية وقناة الجزيرة العربية في تغطية القناتين للحرب على غزة وهذا بالفعل مثير للشك والجدل، وكل من يشتغل بالإعلام يعرف أن سياسة المجموعة الإعلامية لا يمكن أن تكون إلى هذه الدرجة من التناقض والنفاق إلا لأهداف مرسومة وهو نشر الفوضى والإحباط واللعب على التناقضات والتابوهات في المجتمعات العربية للوصول إلى حالة تثوير الشارع العربي ونشر الفوضى والتمهيد لها والضحك على المشاهدين.
لا يمكن أن نكون إعلاميين ونتفق مع المطالب التي قدمتها دول الخليج لإغلاق هذه القناة لولا أنها أداة مفرقة ولا تمت للمهنية بصلة، ولكنها أداة إعلامية للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين على رغم وجود بعض الكوادر القومية واليسارية فيها.
نقلا عن صحيفة الحياة