قطر دولة صغيرة مساحة وسكاناً، ومحاطة بالمياه من كل جانب، ومنفذها البري الوحيد هو مع جارتها السعودية في الجنوب الغربي من هذه الجزيرة. «كنّا» نعتقد ونتصور بأن قطر وبعد نجاحها في اكتشاف وتصدير الغاز بما مكَّنها من الحصول على الموارد المالية الضخمة ستسير بخطوات سنغافورة أو إمارة دبي مثلاً نحو تأسيس البنى التحتية المثالية أولاً، والتوجه في ما بعد نحو التنمية الاقتصادية المستدامة، وتحويل موقعها إلى نقطة جذب عالمية للاستثمار والتميز، خصوصاً في منطقتنا العربية التي تفتقر إلى انتشار مثل هذه المواقع. وهذا بالفعل ما بدأت به على أرض الواقع، غير أنها تجاهلت عنصر «المخاطر» Threats الذي قد يعوق استدامة هذه التنمية. والمخاطر هي العنصر الرابع الذي يأتي بعد عناصر «القوة، الضعف، الفرص». أنا هنا أشير إلى ما يعرف اقتصادياً بـ SWOT Matrix الواجب الأخذ بجميع مكوناته في أي دراسة جدوى اقتصادية وفي أي مكان مهما كان نوع الاستثمار.
تخيلوا مطوّراً عقارياً قرر أن يحول أرضه إلى مركز تجاري «مول» لا يوجد له مثيل في المحتوى، مركز تشد إليه الرحال من كل صوب، حيث يتوافر لديه عنصر القوة Strength المتمثل بقدرته على توفير أفضل مواد البناء والمعروضات وأروع الصالات السينمائية والمسارح والمأكولات والسكن والتعليم والصحة والمواصلات في الداخل. وضع هذا المطوّر جل ثقله المالي وعلاقاته في سبيل الحصول على هذه المزايا وبدأ بالبناء، ومن أجل تغطية الضعف Weakness المتمثل في حالات الطقس وقلة عدد الزائرين والحاجة لجذبهم من مسافات بعيدة، عمل على التكييف العام لمعظم أرجاء الموقع، وأحدث مؤسسة كبرى للطيران تنقل الزوار في أفخم وأحدث الطائرات المدنية في العالم، وشيَّد لهم مطاراً فخماً يعتبر الأحدث ومن بين الأجمل عالمياً، استثمر كل الفرص المتاحة Opportunities كنجاحه «الغامض» في الحصول على تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم، وتنظيم مهرجانات ومسابقات رياضية وفنية كبيرة، نقل الملايين ممن يعملون في المنطقة من وإلى الدوحة، ومن ثم نقلهم إلى بلادهم بواسطة برامج وعروض سفر مغرية، مما مكنه من تشغيل الطيران التجاري بنجاح.
لكن وبقدرة قادر، تجاهل هذا المطوّر عامل «المخاطر» Threats ولم يمنحها الاهتمام المطلوب. قرر مثلاً أن يمضي في نياته التوسعية القديمة، وهي محاولات زعزعة المجتمعات، والحصول على فرصة للتوسع الجغرافي بعد سقوط الأنظمة، وهذا على حساب مصالح زوار المركز وأمنهم في ديارهم. سمح لعدد من سقط المتاع ممن اتصفوا بالخيانة والاختلاس باللجوء إلى مركزه، وأمّن لهم الراحة والرعاية. أسس لمركزه منبراً إعلامياً ظن البعض أنه سيصبح منارة عالمية لرفع مستويات الوعي ونشر السلام وتوفير البيئة المتصالحة في المنطقة، والتي تخدم مالك هذا المركز وتشجع الناس على زيارته. لكن هذا المنبر مع الأسف أصبح متخصصاً في تأجيج الفتن في كل مكان، وتحول ضيوف المركز الغرباء المتطرفون ذوو الأيديولوجيات المنفرة إلى خطباء متخصصين في النيل من أمن وسلامة الجيران الذين هم من بين «عملاء المركز». تحول هؤلاء اللاجئون في ما بعد إلى «نجوم» يترددون على الشاشات بشكل منتظم، ليحرضوا على العنف والشغب والإرهاب في كل مكان. يقال أيضاً إن هذا المطوّر لم يكتفِ بإبراز هؤلاء إعلامياً، بل دعمهم ودعم مريديهم في الخارج مالياً ولوجستياً.
الاستعداد لإنجاح مسابقة ضخمة مثل نهائيات كأس العالم، وهي الأولى من نوعها في المنطقة العربية، وكذا الاستثمار في نقل المركز إلى واحة من التحضر في بناها التحتية، يتطلب كما هو معلوم ضخ البلايين، وبناء المنشآت، وتوفير وسائل النقل، وبدأ العمل بذلك فعلاً داخل محيط المركز. لاحظوا هنا أن الالتزامات المالية تتضخم مع الوقت، والإنفاق هو الآخر تضاعف مئات المرات، بما في ذلك استثمارات خارج المركز، تتمثل في الدخول في ملكية شركات صناعية عملاقة ومراكز تسوّق وفنادق وبنوك حول العالم. قيل أخيراً إن استثمارات هذا المطوّر في الخارج تعادل استثماراته في الداخل. هذا يعني أن الدخول في أي مخاطرة أو ارتكاب أي حماقات غير مدروسة مع الغير، خصوصاً وهذا الغير في الغالب أقوى منه، قد ينتج منها انتقام أو رد فعل مضاد يتناسب حجمه مع حجم ما هو مستثمر وتحت التنفيذ، يكون وهو بكل المقاييس كارثياً وهائلاً.
أخونا بالله وكما هو معلوم لم يفكر إطلاقاً بحساسية سلوكه المتناقض، وخطر ذلك على سير العمل في الداخل، إذ ومع كل نجاح إيجابي تنموي يتحقق يحدث في المقابل تمدد وزيادة في جرعة الجرأة والوقاحة، التي أخذ المطوّر يمارسها ضد الغير، الأمر الذي دفع الجيران إلى القلق، كون الموضوع أصبح يشكل خطراً أمنياً لم يعد يحتمل السكوت عنه. تخيلوا لو أن القائد المؤسس لي كوان يو كان يحمل مثل هذا السلوك، هل كنا سنجد دولة تسمى اليوم سنغافورة؟ ومما زاد من غضب الغير انتشار تسجيلات كان يفترض ألا تنتشر، إذ كان «الأخ» يتحدث مع أحد الأطراف المعروفة بتمردها عن خططه لإسقاط شرعية الحكومات، وذلك بغرض انهيارها والتوسع والخروج من جزيرته المحدودة كما أشرنا. زادت وتيرة هذا السلوك إلى الحد الذي دفع جارته الكبرى، وبعد أكثر من 17 عاماً من الصبر على الأذى كما يصبر رب الأسرة على الطفل الشقي، إلى استدعائه وإطلاعه على رفض قبول هذه التصرفات، وأن عليه التوقف عنها فوراً، وبالفعل وافق على هذه الشروط، وتم التوقيع على ذلك قبل ثلاثة أعوام. لكن ما إن عاد إلى «المول» حتى عادت «حليمة لعادتها القديمة» وكأن لا اتفاق ولا شروط موقع عليها.
نعود إلى ما بدأنا به، وهو أن المغامرة غير المحسوبة التي وقع بها هذا «التاجر»، هي كونه لم يُعِرْ مبدأ إرضاء العملاء وتوفير البيئة الاستثمارية والاستهلاكية والمحافظة على العلاقات الودية مع الخارج أي اهتمام، وجميعنا يعلم أن إرضاء العملاء ركن أساسي في هذا النوع من البيئة الخدماتية. أسطوله الجوي في حاجة إلى ركاب وشحن، وقبل ذاك إلى فضاء يسمح له بالطيران فوقه. مركزه التجاري ومحتوياته من الوحدات السكنية والترفيهية التي استثمر فيها أفراد ومؤسسات في حاجة إلى مشترين. منشآته الضخمة في حاجة إلى تشغيل حتى بعد انتهاء المسابقة المذكورة. منافذه البرية تعتبر ممولاً رئيسياً للغذاء والمواد الأساسية، وهذا المنفذ في يد الغير ولا يملك عليه سلطة مطلقة. لم يحسب هذا المطوّر «الذكي» أي حساب لهذه العوامل الحاسمة عندما تحولت مهمته من بانٍ إلى هادم متخصص في خلق الأعداء والتعدي على سلامتهم واستقرارهم.
هذا باختصار شديد ما نشاهده اليوم في قطر، وقد حاولت تصويرها في سياق مشروع تطوير محدد أو عمل مؤسسة تجارية، لتتضح كمية الغباء والتهور الذي لا يمكن لصاحب مؤسسة صغيرة أن يقع به، فكيف برئيس دولة ومعه حكومة يفترض «أن تعرف أكثر»؟ يستطيع المرء أن يتفهم وجود مثل هذا الطموح لدى البعض ممن تفاجأ بزيادة ثروته لو أنه لم يعرض نفسه للانكشاف المالي الضخم أو ما يسمى Exposure. لكن أن تنكشف إلى هذا الحد من الإنفاق المالي وشراء الأصول والالتزام بالقروض وبعقود المشاريع الهائلة، وتفترض بالطبع الحصول على العائد على الاستثمار للوفاء بالتزامات التمويل، ثم تعرّض كل ذلك لهذه المخاطر غير الضرورية أساساً هو الأمر المذهل.
كنت أسمع في زمن الطفولة ترديد الناس هذا المثل: «فلان ما يسرح بعنز»، ويطلق على أي شخص غير قادر على الرعي بعنزة واحدة في المراعي، وقد يفقدها بسبب تدني الذكاء وغياب المهارات. مع كل ما تكشف لنا اليوم، لا أجد حرجاً من إطلاق ذلك المثل الشعبي على صناع سياسة قطر. الحكومة في الدوحة اليوم ومهما قلّبت الصورة وحاولت أن تجد مخرجاً من الجحر الذي وضعت نفسها فيه، لن تجد ولن تسلم من هذه الأزمة إلا بالإذعان لمطالب الدول الأربع، وكلما طال الأمد بلا حلول تضخمت النتائج السيئة على كل ما تم بناؤه هناك حتى الآن. ومع اقتراب نهاية مهلة الايام العشرة أمام قطر لقبول شروط رفع المقاطعة، يبقى الأمل أن تحدث معجزة ما هناك، لتضع حداً لانزلاق هذه العربة السريع نحو الإفلاس.
نقلا عن صحيفة الحياة