يقول الشيخ حمد بن جاسم في مقابلة له مع الإعلامي شارلي روز في محطة PBS الأميركية قبل بضعة أيام إنهم في قطر فوجئوا بقرار قطع العلاقات بين قطر وجيرانها من دول مجلس التعاون ومصر، ويتحدث متعمداً الظهور بصورة البريء الذي لا يعلم شيئاً عن الأسباب. أتابع لغة جسد الشيخ أثناء المقابلة وأستذكر حديثه السري مع معمر القذافي، الذي ظهر في التسجيلات الشهيرة وكيف كان يستميت في شرح أدق تفاصيل خطته لإسقاط حكم آل سعود، وأقول في نفسي يا له من إنسان متعدد المواهب، فبالإضافة إلى لباقته في الحديث فهو يتمتع بقدرة فائقة على التمثيل والتمظهر بالبراءة. هذا ونحن ربما لا نعلم إلا القليل عن سلوك قطر ومخططاتها، وقد تحدثنا كثيراً عن ذلك. السؤال الذي لا بد أن يطرح نفسه في هذا الوقت: ما الذي لا نعلمه حتى الآن؟ ما الذي فعلته قطر أو خططت له أو قامت بتمويله ولم يتسرب عنه شيء حتى الآن؟ لا يوجد عندي أدنى شك بأن هناك الكثير من ذلك، وسيظهر إلى وسائل الإعلام من خلال لوائح الادعاء المنتظرة التي سيرفعها محامو ضحايا التفجير والقتل في ليبيا وتونس وغيرهما. بل وقد تنكشف أعمال ودسائس وقعت قبل ما يسمى الربيع العربي بسنوات وهذا ما سنحاول إلقاء الضوء عليه.
قبل الخوض في بعض السيناريوات حول بعض الأدوار القطرية التي تدور حولها الشكوك، لا بد من التوقف عند عدد من المحطات المهمة. مولد العمليات الإرهابية في المملكة وإن بدأ بتفجير أبراج الخبر في منتصف عام 1996 بواسطة أفراد ينفذون تعليمات إيران و «حزب الله» في لبنان، فإن دخول تنظيم «القاعدة» بقيادة أسامة بن لادن بمجرد وصوله إلى أفغانستان بعد ترحيله من السودان كان المؤذن الأول للعمليات التي أخذت صبغة الاستمرار. أولها كان تفجير مبنى تابع للحرس الوطني بشارع الثلاثين في العليا بالرياض في تشرين الثاني (نوفمبر) 1996 أيضاً. نفذ هذه العملية أربعة مراهقين سعوديين انضموا إلى «القاعدة» يقودهم عبدالعزيز المعثم، وتم القبض عليهم ومحاكمتهم وإعدامهم. تلت ذلك بالطبع عمليتا نيروبي ودار السلام في كينيا وتنزانيا في العام ١٩٩٨، واشترك فيها السعودي «القاعدي» عبدالعزيز العوهلي الذي حاول الهرب من الموقع بعد أن تردد في تفجير عربته، لكن تم القبض عليه وهو الآن في سجون الولايات المتحدة. تزامنت هذه الأحداث مع مولد قناة «الجزيرة» في تشرين الثاني ١٩٩٦، وبروز ما يسمى بإعلام تنظيم «القاعدة» الذي تبنى عمليات الرياض وكينيا وتنزانيا، وخرج هذا الإعلان عبر قناة «الجزيرة» كسبق صحافي قبل أية وسيلة إعلام أخرى. زادت وتيرة العمليات في المملكة بعد عملية ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١ في الولايات المتحدة وكان عاما ٢٠٠٣ و٢٠٠٤ الأكثر دموية في مدن عدة في المملكة. مرة أخرى كانت قناة «الجزيرة» هي السباقة في تغطية هذه الأحداث بل إن الأمر تطور إلى درجة تمكنها من الوصول إلى أحد الإرهابيين وإجراء حوار معه بالهاتف المنقول أثناء حصار المبنى في عملية تفجير مجمع الخبر الطبي، الذي وقع في عام ٢٠٠٤ في مدينة الخبر السعودية، وذهب ضحيته أكثر من ٢٢ شخصاً.
يشاع أن أمير تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» السعودي المدعو عبدالعزيز المقرن، الذي أشرف على كل العمليات في المملكة، والذي تمت تصفيته في حي الملز في العاصمة الرياض في مثل هذا الشهر من عام ٢٠٠٤ على أيدي قوات الأمن السعودي، يشاع أنه كان يحمل جوازاً قطرياً، وكان يتنقل بين أماكن عدة مشبوهة قبل عودته للمملكة. وجود مثل هذا الجواز مكّنه من إخفاء تنقلاته عن الأجهزة الأمنية السعودية عند بوابات الدخول إلى المملكة. في السياق ذاته، نعرف أيضاً، وهذا لم يعد سراً، عن وجود الباكستاني خالد الشيخ محمد، الذي يعتبر العقل المدبر كما هو معلوم وراء عملية ١١ سبتمبر، نعرف عن وجوده في قطر وبوظيفة هناك مكّنه منها عبدالله بن خالد آل ثاني وزير داخلية قطر آنذاك، المتهم حالياً بدعم الإرهاب ضمن القائمة الجديدة، وذلك بعيد تنفيذ العملية، لكن جرى ترحيله خارج قطر على وجه السرعة في اللحظة التي طالبت أميركا بتسليمه إليها. ماذا عن الحماسة المنقطعة النظير والجهد غير المسبوق الذي قدمته قناة «الجزيرة» في الترويج والتغطية لـ «القاعدة» بواسطة مراسلها تيسير علوني، وكيف كان يتم شحن الأشرطة التسجيلية التي تحمل الخطب والتوجيهات والتعليمات إلى الأتباع في المملكة من أفغانستان إلى عنوان المحطة في الدوحة وفي شكل خاص يشبه الاحتكار. لنتذكر أيضاً أن «الجزيرة» بثت لقاء مع بن لادن عندما أصبح المطلوب الأول للعدالة في العالم، ما يؤكد مستوى الثقة بين الطرفين. هل يجوز طرح التساؤل عن مدى علاقة قطر كحكومة في ذلك الوقت بتنظيم «القاعدة» وتحديداً في عملية ١١ سبتمبر؟ كل هذه التساؤلات أصبحت مشروعة، خصوصاً عندما نتذكر كيف تم اختيار الجنسيات التي قامت بتنفيذ العملية وهي السعودية ومصر والإمارات، إضافة إلى لبنان. أليس معظم هذه الدول هي الدول نفسها التي تقف اليوم ضد قطر بسبب سلوك الأخيرة وممارساتها العدائية؟
اللافت هنا أنه وحتى بعد هزيمة «القاعدة» في المملكة وفي عدد من الدول الأخرى باستثناء اليمن، يستمر العمل في قطر على تنفيذ المخطط الأصل، الذي جاء شرحه بالتفصيل في التسجيلات مع القذافي وبالمنوال نفسه، وهو الدعم المالي الضخم لأية جهة معارضة للمملكة مهما كانت تافهة وغير ذات قيمة، كما هي الحال في الغالب الأعم. ففي التسجيلات المعروفة يعترف الشيخ حمد بن خليفة للقذافي بأنه ينفق المال على المعارض السعودي سعد الفقيه، وهو المعروف بـ «مجتهد» في موقع «تويتر»، والمتسلط بشكل كامل على المملكة ورموزها. واعترف الشيخ بتمويل قناة «الحوار»، ونعرف أيضاً أنه يملك عدداً من المنصات الإعلامية أخيراً في لندن بعد محاصرته في بنود اتفاق الرياض في عام ٢٠١٤.
يتساءل المرء كيف لهذا العمل (إسقاط حكومة المملكة) الذي بدا وكأنه هدف لتنظيم «القاعدة» وهدف لعمليات التفجير داخل الوطن، كيف لهذا العمل أن يستمر حتى مع زوال «القاعدة» وغيابها شبه التام عن المشهد؟ هل يجوز لنا القول إن «القاعدة» كانت مجرد أداة وجدها «الإخوة» جاهزة لتنفيذ المخطط، وتم دعمها لكنها فشلت؟ نطرح هذا التساؤل لأن الخط الذي مارسته قطر عبر دعمها الإعلامي لذلك التنظيم استمر كما هو عليه، لكن بأدوات جديدة، وإن خلا من العمليات الإرهابية في الداخل بسبب بسالة ومهارة ومهنية رجال الأمن الأفذاذ في المملكة. أنا فقط أتساءل عن دور قطر في تلك العملية، وأقصد عملية ١١ سبتمبر، بسبب وجود العديد من القرائن كما شرحت. القرائن أو كما يسمونها في أروقة القضاء بـ circumstantial evidences، قد تؤدي مع مزيد من التحقيق والمساءلة إلى الإدانة حتى في غياب الأدلة المادية الملموسة. الكثير من الناس وإلى هذا اليوم غير مقتنعين أن تنظيم «القاعدة» وحده كان قادراً على تنفيذ مثل هذه العملية، ويشير بعضهم بأصابع الاتهام إلى إسرائيل. فلماذا لا تكون قطر؟ ولماذا لا تكون إسرائيل وقطر وربما إيران؟
من قرأ تفاصيل البيان الرسمي الصادر من الدول الأربع مع قطع العلاقات وما تبعه من إجراءات غير مسبوقة ومدروسة بعناية، وتأخذ صفة التصميم والعزم والكشف التدريجي عن المزيد من الخبايا، يدرك أن لدى هذه الدول أكثر بكثير مما تم إعلانه من الخيانات والدسائس. من يشاهد تعليقات كبار المسؤولين في الولايات المتحدة عن تورط حكومة حمد بن خليفة وحمد بن جاسم في العديد من المواقع المشتعلة حول منطقة الشرق الأوسط لا يمكن أن يغفل عن مدى الامتعاض والحيرة في تعابيرهم كون قطر تعتبر حليفاً للولايات المتحدة وتحتضن أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة. يقول السيناتور المخضرم جون ماكين (جمهوري من ولاية أريزونا) قبل يومين، إنه لا يعقل أن تصدر مثل هذه القرارات من الدول الأربع من دون وجود أدلة قوية تدفعها لعمل ذلك، مشدداً على ضرورة توقف قطر عن دعم الجهات المشبوهة.
الذي لا جدال حوله، وخلافاً لحديث الشيخ حمد بن جاسم وجولات وزير الخارجية القطري ووسائل الإعلام في قطر، أن الأنظار اليوم تحوم حول قطر وتتفحص كل قصة تخرج إلى الإعلام. وفي أماكن أخرى يجتمع الكثير من خبراء القانون والسياسة ومكافحة الإرهاب للبحث عن كل الدلائل والقرائن التي قد تفضي لمعلومات وسلوكيات لم يخرج منها شيء بعد، وقد تبدي لنا الأيام الكثير والمذهل مما كان خافياً.
نقلا عن صحيفة الحياة