يحلو لقوى سياسية لبنانية أن تصف قانون «اللحظات الأخيرة» للانتخاب الذي توافقت عليه قبل يومين تحت ضغط الوقت بأنه صناعة لبنانية، وبأنها المرة الأولى التي ينجز اللبنانيون قانوناً بهذه الأهمية نتيجة تسوية بينهم لم تفرض عليهم من الخارج.
ويعود القائلون بهذا الاستنتاج إلى مرحلة الوصاية السورية التي شهدت تفصيلاً لقوانين وقصقصة لدوائر انتخابية خلال 3 عقود، على قياس حلفاء دمشق وتطلعاتها لإنتاج مجلس نيابي طيع لما تريده من السلطة السياسية في لبنان. لم يكن تأثير الانتداب الفرنسي على تركيب البرلمان اللبناني، قبل الاستقلال، ليقاس بذاك الذي مارسه نفوذ العسكر السوري، ليس فقط عبر القانون بل عبر التدخل المباشر في العملية الانتخابية، من طريق فرض تحالفات ومرشحين والحؤول دون ترشح رموز مسيحية، وتغطية التزوير وتشتيت الكتل الكبرى واصطناع أخرى.
وبقدر ما كانت سطوة الاستخبارات فاعلة، فإن ذروة هذه السطوة اصطدمت باستعصاء طبيعة التوازنات اللبنانية السياسية والطائفية على التطويع أحياناً، فلم تحل دون نجاح معارضين لها، وتمرد البعض الآخر. بل إن تراكم التمرد هو الذي أنتج ما سماه الراحل سمير فرنجية لاحقاً «انتفاضة الاستقلال». والأمثلة كثيرة. يمكن الاكتفاء منها بواقعة سعي غازي كنعان مع حلفائه اللبنانيين عام 2000 إلى قانون انتخاب يحجم حصة الرئيس الراحل رفيق الحريري، وكلما ابتدع هؤلاء مشروع قانون هدفه منعه من الفوز بعدد كبير من النواب، وأجروا استطلاعات الرأي حوله، اكتشفوا أنه لا يحقق الغرض حتى استنفدوا كل الأفكار. وما كان من كنعان إلا أن أبلغهم: «لم أترك قانوناً اقترحتموه كي يتم إسقاط جماعة الحريري، إلا وعملت لأجل تبنيه، لكنكم لا تلبثون أن تقولوا لي إنه على رغم ذلك سيفوز بكتلة وازنة. إذا كان الأمر كذلك، فليفز».
قد تشي هذه الواقعة بواحد من أسباب اغتيال الحريري لاحقاً. لكنها تضيء على أمور أخرى. فالحديث عن أن قانون النسبية في 15 دائرة الذي جرت التسوية عليه قبل يومين «صناعة لبنانية»، يقصد منه الإيحاء بأن قانون «الستين» صناعة خارجية، وهو ما يدحضه التاريخ الذي يسعى بعضهم إلى تشويهه معتمدين على تعبئة إعلامية تعمي الذاكرة. فقانون الستين، بصرف النظر عن عيوبه، كان من صناعة الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب، الذي كان أكثر الرؤساء استقلالية عن الخارج بعد التسوية التي عقدها مع جمال عبد الناصر على تحييد لبنان عن الصراعات العربية، فضلاً عن أنه الرئيس الذي يتمنى كل الرؤساء الذين أعقبوه أن يذكرهم التاريخ واللبنانيون بمثل ما يذكرونه. ولا داعي للشرح هنا.
قد تكون القيادات اللبنانية انغمست كلياً في الأشهر الأخيرة في التفاصيل التقنية والسياسية المحلية لصيغ قانون الانتخاب، إلى درجة بات من المشروع لبعضها أن تتغنى بإنجاز قانون النسبية الذي سيقره البرلمان اليوم، من دون معارضة تذكر. وقد تتيح صفته التجريبية عند حصول الانتخابات على أساسه بعد سنة، اكتشاف إيجابيات منه كأن يؤدي إلى تمثيل قوى مهمشة في المجتمع المدني في الندوة النيابية. إلا أن هذا لا يعطيه صفة الابتعاد عن المؤثرات الخارجية التي ساهمت في إنتاجه. فالفريق الوحيد الذي حقق مراده من وراء نظام النسبية الجديد كان «حزب الله» لأنه الوحيد، من دون غيره، الذي أصر عليه منذ سنوات وظل يعتبره الصيغة الوحيدة التي يقبل بها. تماماً مثلما فعل بالإصرار على انتخاب العماد ميشال عون للرئاسة وعطلها سنتين ونصف السنة. والحزب ليس مجرد قوة محلية مستنيرة همها الوحيد تطوير النظام السياسي والانتخابي اللبناني، بعد أن تحول قوة إقليمية منخرطة في الصراع السياسي والعسكري على امتداد المنطقة ضد دول وأنظمة وجماعات، وبالتالي له حساباته من وراء إصراره على قانون النسبية في لبنان، ووظيفته في تركيبة السلطة في البرلمان والحكومة التي يريد أن يأمن لها في خضم المعارك التي يخوضها، مع الحاضن الإيراني. فهل يستوي اعتبار القانون الجديد صناعة لبنانية مع هذا الواقع؟
قد تستعصي التوازنات اللبنانية على التطويع مجدداً، لكن هناك من يدعو إلى التنبه لاحتمالات خطرة. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي اعتمدت النظام الانتخابي النسبي. وهو أدى إلى شرذمة الكتل النيابية التقليدية بحيث تمكن المتطرفون على أساس ديني، من أن يحصلوا على كتل صغرى لها الصوت المرجح فباتوا يتحكمون بتركيبة السلطة وبنمو التطرف في الكتل الاجتماعية. فهل تستعصي التوازنات اللبنانية على هذا الخطر أيضاً، أم ينفذ إليها التشرذم والفوضى اللذان تشهدهما المنطقة؟
نقلا عن صحيفة الحياة