قطر.. الإثارة والفتنة
سياسة قطر اليوم هي أشبه ما تكون بمسرحية من مسرحيات مسرح اللا معقول، حيث يشكل الفصل بين الفكر والحقيقة عقدتها، وأنه لا شك في أن انعزال الحقيقة عن الفكر لا يفضي إلى ذبول الفكر فقط؛ بل وإلى زوال الحياة؛ فالأخوة ترفض التربص والخديعة، ومن دون أدنى شك، فإن أبناء الأمة العربية يشاركوننا القناعة بأن سياسة قطر، بحكم حسابات خاطئة، قد انفلتت من قبضة المنطق، وقيود العقل.
لقد أصبحت كابوساً يمثل الانسلاخ الشامل للشخصية الإنسانية العربية التي تقوم على فرضية تقول إن للسلوك السياسي أسلوباً وغاية، غير التحدي، والانتحار، والعيش في عالم المغلوطية والوهم، عندما يلهو البعض بدولتهم فوق أمواج محيط أقوى بكثير من قدرتهم على سبر أعماقه، حينئذ تكون الدولة قد أخذت طريقها نحو التفكك والانهيار، تحت سياط القياسات الكاذبة، والخطاب العبثي، عندما يتخبط قادتها في سياسة هاوية الارتعاد والارتداد، فتنقطع العلاقات بين السلوك والهدف، فلا يجوز في مطلق الأحوال أن يدفع بدول مجلس التعاون الخليجي إلى هذا المصير بحكم السياسات الخاطئة.
فالعلاقة بين أبناء مجلس التعاون نسجتها الأخوة القائمة على المحبة، والجوار، والمصير، فالأوطان ليست مفهوماً جغرافياً محدوداً بجبال وبحار، إنما الوطن حرية وكرامة، ولذلك فإن قطر خرجت عن هذا الحد، وأسقطت كل صفات الوطنية، وانسلخت في غياهب الاغتراب الكلي في أسواق الخديعة، ومتاجر الوهم. لم يكن البيت الخليجي منذ تأسيسه بهذا السوء إلا عندما قررت قطر شق عصا الطاعة، ومخالفة إجماع البيت الواحد، فاتخذت لنفسها طريقاً لا يضر بجيرانها الخليجيين فقط؛ بل يضر بها أيضاً، وهذا الطريق أفسد الود بين الإخوة وقطع حبال الحب والنخوة.
لم تعلم القيادة القطرية أن مستقبل قطر الآمن يكمن في علاقتها الوثيقة بشقيقاتها، وأن لها حقوقاً مصونة، وعليها واجبات مرهونة، فمن حقوقها أن يعاملها الأشقاء بكل حب واحترام، وأن يراعوا مصالحها، ويمحضوها النصح، ويساعدوها عند الحاجة، أما واجباتها فتتمثل في: النزول عند مشيئة أشقائها، وعدم الخروج على إجماعهم حول أمر ما، أو قضية من القضايا، وعدم تدبير المكائد لهم، بالتواصل مع أعدائهم، وبما يؤدي إلى حدوث ما لا تحمد عقباه.
منذ أن بدأت الفوضى تضرب أطنابها في المنطقة العربية عام 2011، بدأت قطر تلعب أدواراً خطرة، فقد تبنت تنظيم الإخوان الإرهابي، ووفرت له كل الدعم؛ ليستولي على الحكم في بعض الدول العربية. كما بدأ إعلامها بالتحريض ضد شقيقاتها في الخليج، وعملت على دعم التنظيمات المتطرفة في سوريا، مثل: «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، وعندما استعاد الشعب المصري حريته المفقودة في ظل حكم الإخوان في فاتح يوليو 2013، راحت قناة الجزيرة القطرية تحرض ضد الدولة المصرية، وتصف ما حدث بأنه انقلاب على الشرعية؛ بل تبنت قطر زعامات التنظيم الهاربة من مصر، ووفرت لهم المسكن والمنبر الإعلامي.
وبسبب سياسات قطر، فقد سحبت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين سفراءها من الدوحة في 5 مارس/آذار عام 2014، بسبب ما اعتبر تدخلاً من قطر في الشؤون الداخلية في بعض الدول الخليجية، ولدعمها ورعايتها الجماعات المتطرفة المصرية. وقد دفع هذا الشرخ بعض الدول الشقيقة، وفي مقدمتها الكويت، للمبادرة إلى لمّ الشمل، وطيّ صفحة الخلاف، وقد نجحت المساعي الكويتية، والخليجية عموماً، آنذاك، في رأب الصدع، وتجلت ثمارها في اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في 28 إبريل/نيسان في الرياض، من أجل تسوية الأزمة مع قطر، الذي اختتم ببيان وضع الخطوط العريضة لتطبيق ما أفرزه الاجتماع من «اتفاق صلح خليجي».
وقضى الاتفاق بالتزام قطر بمجموعة من البنود الواضحة، أولها التوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول الخليج، والدول الأخرى، وهذا لم يتحقق على الإطلاق، وظهر جلياً في تصريحات أمير قطر ضد البحرين والإمارات. كما أكد اتفاق التعاون بأن تقوم قطر بإبعاد كل العناصر المعادية لدول المجلس، والمطلوبة قضائياً عن أراضيها.
كذلك أكد الاتفاق على عدم السماح لرموز دينية في قطر باستخدام منابر المساجد، ووسائل الإعلام القطرية المختلفة، للتحريض ضد دول مجلس التعاون، ولكن هذا أيضاً خرقته قطر، إذ استمرت في استخدام منابر المساجد؛ لتفتيت الوحدة الخليجية، وضرب مقومات الأمة. ومن بنود الاتفاق أيضاً، وقف تحريض الإعلام القطري ضد مصر الشقيقة الكبرى، لكن قطر تجاهلت هذا البند أيضاً، واستمر إعلامها في التحريض ضد الحكومة المصرية. ورغم أن دول الخليج جنحت للصلح، أملاً منها في أن تفهم القيادة القطرية هذه الرسالة الأخوية، وأعادت السفراء إلى الدوحة بعد القمة الخليجية في الرياض في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، لكن قطر استمرت في سياستها تلك من دون أي تغيير يُذكر.
وبعد انعقاد القمة الإسلامية الأمريكية في الرياض في 22 مايو/أيار 2017، التي شهدت موقفاً جماعياً واضحاً عربياً -إسلامياً- أمريكياً تجاه التدخلات الإيرانية ومشاريعها التقسيمية في المنطقة، كما شهدت موقفاً حازماً تجاه الإرهاب وداعميه، فقد فوجئ الجميع بتصريحات لأمير قطر تخالف هذا الإجماع، عندما تحدث عن علاقات متوترة مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ووصف إيران بأنها قوة مؤثرة في استقرار المنطقة. وقد تبين واضحاً أن قطر مازالت تمضي مصرة على المنوال نفسه، وأنها مستمرة في سياسة المناكفة، وعدم احترام المواثيق والعهود.
لقد فقدت القيادة القطرية، بإرادتها، دعم الأشقاء في الخليج، واختارت، بكامل إرادتها، الطريق التي تريد أن تسير فيها منعزلة عن أشقائها، ضاربة عرض الحائط بكل القواسم الدينية، والتاريخية، والاجتماعية المشتركة التي تجمع أبناء الخليج العربي، محاولة تحطيم الكيان الواحد الذي يجمعنا، بعدما بذل الآباء المؤسسون الغالي والنفيس في قيام صرح البيت الخليجي الموحد. إن جسد الأمة العربية لينزف ألماً، ويعتصر حزناً، لما تصنعه به القيادة القطرية في السنوات الأخيرة، ولله در الشاعر العربي حين قال:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضة على المرءِ من وقع الحسام المهند
نقلا عن صحيفة الخليج