اكبر كارثة تعرضت لها فلسطين، تصغير قضيتها، التي بدأت بتحريرها من بحرها الى نهرها، ووصلت اليوم حد العبور عبر حاجز ايريز قرب غزة، ومن تحرير القدس، الى الاحتفاء بتأجيل ترامب نقل سفارة الولايات المتحدة من تل ابيب الى القدس، ومن كون فلسطين قضية العرب والمسلمين والشرفاء في العالم، الى تحولها لقضية سلطة «رام الله» فقط.
اكثر من ستين عاما، استطاعت اسرائيل خلالها، وبالتواطؤ مع جهات عدة، ان تنجح في قلب الاولويات، واعادة ترتيبها، فقد كنا مثلا، نتحدث عن تهويد كل القدس، واليوم نتحدث عن حاجتنا للضغط على اسرائيل للسماح لعدد اكبر بالصلاة في الاقصى يوم الجمعة في رمضان، وهذا مثل يضاف الى الامثلة السابقة، وبعد ان كنا نتحدث عن عودة كل الفلسطيينين الى بلادهم، بتنا نتحدث فقط عن التنسيق الامني الذي يضمن مرور فلسطيني من غزة الى الضفة الغربية، وبعد ان كنا نتحدث عن عروبة فلسطين كلها، بتنا نتحدث فقط، عن اقل من عشرين في المئة من مساحة الضفة الغربية باعتبارها مساحة محتملة لدولة فلسطينية، وبعد ان كنا نتحدث عن ضرورة اطلاق الاسرى الفلسطينيين، بتنا نحتفل اليوم، بحصولهم على زيارة اضافية من اهاليهم، وتحسين وجبات الطعام.
هذا ليس بثا للروح السلبية، لكن الذي يعود الى ارشيف الصحف العربية في الاربعينيات حتى الخمسينيات مثلا، والذي يعود الى ذات الارشيف، كل عشر سنين، يكتشف ان اسرائيل استطاعت تغيير الاولويات، عبر خفض سقف المطالبات، واحلال اولويات جديدة، وبسبب الانهاك القومي، والظروف التي تتنزل على العالم العربي، لم تجد هذه اللعبة اي مقاومة، بل على العكس، وصل تعب الناس الى درجة، باتوا فيها، في بعض الحالات يستبدلون قضية فلسطين، بما يجري في العراق وسوريا واليمن وليبيا، اذ هناك محو مدروس للذاكرة، نتورط فيه جميعا، سياسيين واعلاميين.
اذا بقيت الحال هكذا، فان صحف مابعد عام 2020 ستأتينا بأخبار من نوع جديد، قد يكون من بينها، وصول سقف مطالباتنا بأن يتم استبدال الخبز الابيض في سجون الاحتلال بخبز قمح اسمر، وان يسمح الاحتلال بركعتي السنة، في الاقصى، بدلا من الاكتفاء بالفرض، وقد تصير القضية الفلسطينية، من اختصاص «البيرة» وليس « رام الله» المجاورة لها، وهكذا تنخفض سقوفنا، وتتراجع الاولويات، ويتم اغراقنا بشكل مدروس كل فترة في اولويات جديدة، على اهمية بعضها، لكنها تصير هي القصة.
لابد هنا، من احياء الاولويات كما كانت، فالاولوية هي خروج الاحتلال من كل فلسطين، وعودة الشعب الفلسطيني، الى بلاده، وتحرير هذه الارض، واذا كان هذا مجرد كلام ساذج او عاطفي في نظر البعض، فإنه ايضا، ومن ناحية سياسية وعملية، يرفع سقف اشتراطاتك في وجه من يخفضها الى درجة ايصالها الى القاع، وكلما انخفضنا وتم التحكم برؤيتنا عن بعد، ازداد ضعفنا، وعدم قدرتنا على اشياء كثيرة.
إهلاك الفلسطينيين، وكل خزان الدم العربي المجاور لفلسطين بالحروب والاقتتالات والديون والمشاكل والمواجهات، كان مدروسا، ولم يكن عبثا، وما يمكن قوله اليوم، ان هناك حالة استلاب كاملة، تنطلي علينا كلنا، كان آخرها، الاحتفاء العربي والاسرمي بقرار ترامب تأجيل نقل سفارة بلاده الى القدس، وقبل ستين عاما فقط، كان مطلبنا تحرير ذات القدس، كليا، واخراج اليهود منها، بأعتبارها مدينة عربية اسلامية فلسطينية.
فلسطين. اين كانت. واين صارت؟!.
maherabutair@gmail.com
نقلا عن صحيفة الدستور