الإنسان هو المادة الأولية للسياسة، وهو صانع التغيير فيها، بالوعي، وبالمعرفة، وبالاختيار، وبالقرار، وبالرؤية، وبالخطة، وبالبرنامج الزمني، وبالرصد، وبالتحليل، وبأدوات القياس، وبمعايير الأداء. لكن التغيير في السياسة لا يتحقق بكبسة زر، فالتراكم هو قدس أقداس التغيير.
عصفت رياح التغيير بعالمنا في الثلاثين عاماً الأخيرة، فانكمشت روسيا، واتسعت ألمانيا، وتمزقت يوغوسلافيا، وتوحدت فيتنام، وتمددت الصين، وانفردت أمريكا بزعامة العالم، فيما بقي الشرق الأوسط، وكأنه عصيٌ على التغيير، محصَّنٌ ضد تفاعلاته.
تميل شعوب الشرق الأوسط الى الاعتقاد، بأن لديها حصانة ما ضد التغيير، يعزوها البعض الى عمق التاريخ، والى ثقافة شكلتها الأديان، لكنني أتصور أن مصدر تلك الحصانة، ربما كان عدم جاهزية المنطقة وشعوبها التي لم تبلغ طور التغيير بعد، فالشعوب تتغير عندما تنضج لصنع التغيير، أو لاستقباله، وعندما تكون جاهزة للوفاء باستحقاقاته.
ما حدث في المنطقة العربية منذ صفعة البوعزيزي في تونس، عبّر عن شوق للتغيير استبد بشعوبها، لكن نتائجه على الأرض، تقطع بأن شعوب المنطقة، لم تكن جاهزة بعد، لا لصنع التغيير ولا حتى لتلقي نتائجه.
قوة جهازنا المناعي إذن ليست مصدر حصانتنا ضد التغيير، وانما نحن أقوياء بمقدار الهشاشة فينا، فكلما أوغلنا في استدعاء الماضي لإدارة الحاضر، كلما ازددنا بعداً عن المستقبل وتفاعلاته، وعن قواعد الاشتباك معه.
وبسبب الالحاح على استدعاء الماضي لادارة حاضرنا، تغيب السياسة بكل أدواتها السلمية الطبيعية، من الإقرار بحق الاختلاف، الى الإقرار بحتمية ادارته سلمياً، ويجري استدعاء العنف، من داخل الإقليم الى داخل الإقليم، باعتباره الأداة الوحيدة المتاحة لاستحداث التغيير، أو لمعاودة الاشتباك مع المستقبل.
قبل أكثر من مائة عام أنتجت صيغة سايكس بيكو، خارطة عربية جديدة، نعيناها جميعاً باعتبارها مؤامرة استعمارية ضدنا، هدفها الوحيد تقسيمنا وتقزيمنا، واقتسامنا لاحقاً فيما بين الكبار، لكننا بعد نحو ربع قرن من سايكس بيكو، كنا نحتفي بتأسيس جامعة الدول العربية، وولادة نظام إقليمي عربي.
هل كانت ولادة جامعة الدول العربية ممكنة، بدون سايكس بيكو؟!.. لا أظن، فقبل تلك الاتفاقية كنا جميعاً ولايات عثمانية، نخضع راضين ممتنين، لاحتلال تركي، اسماه بَعضُنَا لفرط غفلته « فتحاً إسلامياً».
النظام الاقليمي العربي، أنتجته إذن معاهدة سايكس بيكو البريطانية- الفرنسية، التي لم يكن العرب طرفاً فيها، وانما كانوا مادة لها، واليوم بينما يجري تفكيك حدود سايكس بيكو، بمعرفة قوى أخرى، أنتجها نظام دولي آخر، فإن تفكيكاً للنظام الإقليمي العربي الذي افرزته سايكس بيكو، قد يبدو منطقياً بالتداعي.
ما يحدث الآن بطول الخارطة العربية، هو مخاض ولادة جديدة لنظام إقليمي جديد تتراجع فيه حصة العروبة، كهوية ثقافية، لحساب حصة الشرق أوسطية كهوية جغرافية، لا يهيمن عليها العرب، لا بثقافتهم، ولا بسياستهم، ولا بجغرافيتهم، ويتحولون بقوة الواقع الى مجرد شركاء جوار إقليمي، فوق خارطة يرسمها الكبار مجدداً.
بعد مائة عام سعى العرب في نصفها الأول الى تمزيق خارطة سايكس بيكو، وقاتلوا في نصفها الثاني دفاعاً عن نفس الخارطة ، فإن أكثر ما يحتاج اليه العرب في الوقت الراهن، هو لملمة مكونات الدولة الوطنية، أو إعادة تأسيس الدولة العربية وفق عقد اجتماعي جديد، يكرس قيم المواطنة الحقيقية، ويؤسس لشراكة اختيار لا اضطرار، بين الحكم وبين الشارع.
ما جرى في العراق، وما يجري في سوريا، من تمزيق لكيانات وطنية، ما كان له أن يحدث، لولا غياب المواطنة، ولولا إدارة العلاقة بين الحكم وبين الشعب باعتباره شراكة اضطرار لا اختيار.
قبل مائة عام نقلتنا سايكس بيكو فجأة من منطقة القبيلة الى منطقة الدولة ، لكن من وهبونا خارطة سايكس بيكو ، لا هم سلمونا مفتاح الخارطة، ولا نحن أبدينا اهتماماً باستلامه.
نقلا عن صحيفة المدينة