بدون مناسبة.. خرج الكاتب الروائي الدكتور يوسف زيدان صاحب رواية «عزازيل» التي حازت قبل أعوام عدة جوائز تدل على أنها رواية جيدة.. خرج على التلفزيون ليقول إنه- بوصفه خبيراً في المخطوطات التراثية- يستطيع أن يؤكد أن صلاح الدين الأيوبي «من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني!»، وأن الفيلم الشهير الذي تحفظه الذاكرة العربية والإسلامية جيداً هو تزييف كامل للتاريخ.. مع الإشارة بالطبع إلى أن الفيلم كان ترجمة لتوجه ثورة يوليو 1952 بقيادة عبد الناصر وتوجهها القومي وانحيازها للوحدة العربية.
وكان من الممكن أن يمر الأمر على أنه واحدة من «الشطحات» التي تصادف الناس يومياً على شاشات التلفزيون أو عبر وسائل الاتصال، لكن الأمر تحول إلى معركة بأثر رجعي، ولأهداف يصعب تحديدها.
وهكذا كان علينا أن نصحو كل يوم على تغريدة من صاحب «عزازيل» تقول إن صلاح الدين خان سيده، أو أن صلاح الدين قد قتل الألوف بلا سبب، أو أنه قد خان القضية، وباع القدس بدلاً من أن يحررها، وبالطبع فإن الردود جاهزة، والإشادة بصلاح الدين مستمرة، لكن الجدل الذي أثاره زيدان مستمر أيضا، والشكوك أيضا تتزايد حول الهدف من هذه «المعركة» الوهمية، وهذه الاتهامات التي تخلط الجد بالهزل، وتكاد تطالب بمحاكمة صلاح الدين لأنه عميل لليهود، أو لأنه لم يسدد النفقة الشرعية لزوجته.
إن صلاح الدين الأيوبي لم يكن اختراعاً لثورة يوليو، وإنما كان الرجل موجوداً في تاريخ الأمة «باختلاف وجهات النظر حوله» وكان اسمه -رغم أي اختلاف- مرتبطاً بتحرير القدس من احتلال الصليبيين لها، كما كان مرتبطاً بتحول الأزهر الشريف إلى المركز الأساسي للفكر الإسلامي السني على مدى قرون، وحتى الآن.
إن فيلم «الناصر صلاح الدين» الذي أبدعه المخرج العالمي يوسف شاهين لم يكن فيلماً تسجيلياً يروي حياة محرر القدس، ولا كان فيلماً دعائياً لثورة يوليو وعبد الناصر.. وإنما كان رؤية فنية تؤكد إنسانية العروبة وتسامح الإسلام، وتذكر الجميع بالقدس الأسيرة.
إن الدكتور زيدان- مع قيمته العلمية والأدبية- ليس مؤرخاً، وإنما هو محقق للوثائق «هذا عمل جليل» وباحث في تاريخ الصوفية، ومجتهد يصيب ويخطئ.. وإن كان تركيزه على صلاح الدين الآن، وحديثه قبل سنوات قليلة الذي زعم فيه أن المسجد الأقصى ليس موجوداً في القدس، وأن الإسراء والمعراج لا صلة له بزهرة المدائن.. هو أمر لا بد أن يثير الشكوك، خاصة حين نرى وزير دفاع إسرائيل العنصري ليبرمان يعرب عن سعادته بالتصريحات ويقول إنها «تدفع في اتجاه إيجابي بكون القدس عاصمة أبدية لدولة إسرائيل».
في ظل ذلك كله، تبقى الحقيقة الأساسية وهي أننا لسنا أمام رسول من الرسل، أو ولي من أولياء الله الصالحين. نحن أمام زعيم سياسي يسعى لتوحيد العرب والمسلمين في المنطقة لصد غزوة استعمارية لتحقيق أهدافها. وأمام قائد عسكري يواجه الإمكانات التي حشدتها أوروبا في ذلك الوقت وراء الهجمة الغربية، ويتمكن في النهاية من قهرها.
لم يكن صلاح الدين قديساً، لكنه كان حاكماً استطاع بمقاييس العصر أن يحشد إمكانات الأمة لقهر الهجمة الاستعمارية التي حملت شعار الصليب، وكان قائداً عسكرياً فذاً بشهادة أعدائه قبل مناصريه، وباعتبار أرقى المعاهد والكليات العسكرية العالمية التي اعترفت بعبقريته، كما أكد واحد من أكبر الخبراء العسكريين المصريين الذين درسوا في أرقى المعاهد العسكرية في العالم، وقدم دراسة تاريخية موثقة عن معركة حطين عام (1187م)، باعتبارها المعركة العسكرية الأعظم من حيث تأثيرها السياسي والعسكري.
هذه الدراسة التي أصبحت جزءاً من المنهج الرسمي الذي تدرسه القيادات العسكرية من مختلف بلدان العالم في هذا المعهد، تؤكد حقيقة أساسية تغير تاريخ العسكرية في العالم كله الذي كان يقول إن نابليون بونابرت هو صاحب ما يسميه العسكريون الفن التعبوي الذي يعني حشد كل الإمكانات، وقطع كل وسائل الإمداد عن العدو، وإجباره على القتال في الوقت والميدان الذي يجبر عليه.
كانت هذه الدراسة تؤكد أن صلاح الدين الأيوبي قد غير تاريخ العسكرية العالمية قبل نابليون بونابرت بستة قرون، وهو ما يدرسه قادة العسكرية في العالم بأرقى الكليات العسكرية العالمية منذ أكثر من عشر سنوات.
مأساتي في كل ذلك أنني سأضطر لقراءة رواية «عزازيل» بعد أن عجزت عن تكملة قراءتها فور صدورها(!!) وأنني سوف أعاني مشقة الانتظار إلى أن يشاء الله أن أعود لدمشق الحبيبة، وأقف مرة أخرى أمام قبر الناصر صلاح الدين مرة أخرى، وأتطلع من هناك إلى المسجد الأقصى، وأدعو الله أن يفك أسر القدس، وأن يتكرر ما فعله قبل قرون الناصر صلاح الدين. سلاماً للقدس، لزهرة المدائن، وسلامًا على روح صلاح الدين الأيوبي.
نقلا عن صحيفة البيان