أكثر من رسالة وجهها الفرنسيون للعالم بانتخابهم المرشح الرئاسي الوسطي ايمانويل ماكرون، وإسقاط منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان. عبر الفرنسيون عن سأمهم من النخبة السياسية التقليدية باختيار مرشح من خارجها. إلا أن تمردهم عليها لم يدفعهم للارتماء في أحضان اليمين بأفكاره العنصرية البغيضة وفاشيته المدمرة وأجندته المرفوضة شعبياً.
ما فعله الفرنسيون أقدم عليه الأمريكيون من قبل. كلا الشعبين اختار رئيساً لا ينتمي للنخبة المهيمنة على السياسة. غير أن الفرنسيين كانوا أكثر نضجاً بإدراكهم أن التغيير لا يعنى التضحية بمبادئ الديمقراطية والمساواة على مذبح اليمين الشعبوي.
قرار الناخبين الفرنسيين وقبلهم ناخبو النمسا وهولندا وقريباً ألمانيا، بدد مخاوف الغرب من مد يميني هادر في أوروبا مدفوعاً بالنجاح الكبير الذي حققه التيار بانتخاب ترامب. وقد نشرت «نيويورك تايمز» رسالة لأحد قرائها يعبر بكلمات لاذعة عن هذا التطور قائلاً، إن ما فعله الناخبون الأمريكيون ربما يكون هو الدافع الذي حرك الشعوب الأخرى لتفعل الشيء الصحيح.
ليس هذا هو الدرس الوحيد الذي يمكن أن يتعلمه الأمريكيون من الفرنسيين الذين صوتوا ضد الكراهية ونبذ الآخر والخوف منه. وأثبتوا وعيهم بأن مشاكلهم من صنعهم، ولا تحل بقرارات تصطدم مع مبادئهم. أدرك الفرنسيون أيضاً ما خفي على الكثير من أقرانهم على الجانب الغربي من الأطلسي، وهو أن التصويت للتطرف ليس عقاباً للسياسيين التقليديين، ولكنه عقاب للمجتمع نفسه وترسيخ لانقسامه.
تنبه الفرنسيون إلى خطورة استدراج أصواتهم رغم أن التحديات الأمنية التي يواجهونها أكثر خطورة على صعيد الإرهاب والهجرة واللاجئين، مع نسبة بطالة تبلغ 10% أي أعلى من مثيلتها الأمريكية.
أثبت الفرنسيون كذلك نضجاً أكبر من الأمريكيين فيما يتعلق بوعيهم بمصالحهم الحيوية. لم يستسلموا لإغراء الشعارات. استوعبوا أن زمن الانعزالية انتهى، فلا معنى لشعار مثل فرنسا أولاً. وبالتالي صوتوا لمن يؤيد الاستمرار في الاتحاد الأوروبي مثلاً، مدركين أن شعارات اليمين عن الاستقلال والسيادة قول حق يراد به باطل، لأن عضوية الاتحاد تصب في صالحهم ولا تنتقص من سيادتهم واستقلالهم.
درس آخر مهم قدمه الرأي العام والإعلام الفرنسي عندما تسربت مئات من المراسلات الإلكترونية لحملة ماكرون قبيل الانتخابات مباشرة وهو نفس ما حدث مع حملة هيلاري كلينتون. في الحالة الفرنسية وضع الإعلام والجمهور القضية في حجمها الحقيقي، ولم يتعاملوا معها بنفس الهيستريا التي انتابت الإعلام الأمريكي. اعتبر الفرنسيون أن اقتحام الخصوصية جريمة لا ينبغي التسامح معها ويجب ألا يستفيد منها مرتكبوها. لذلك لم تغير التسريبات رأيهم فيمن سيختارون.
أخيراً نشير إلى خطأ شائع هو أن ترامب خسر بسقوط لوبان على أساس أنها تنتمي لنفس التيار، وبالتالي كانت ستصبح حليفاً قوياً له. والواقع أن العكس تماماً هو الصحيح. ترامب أكثر المستفيدين من سقوطها بقدر ما هو مستفيد أيضاً من نجاح ماكرون. الرئيس الفرنسي الجديد صديق حقيقي لأمريكا، بينما لم تكن لوبان كذلك قط. وماكرون من المتحمسين لمزيد من الليبرالية الاقتصادية، واتفاقيات التجارة الحرة، ويؤيد الناتو، ويدعو للتشدد مع روسيا وساند الضربات الأمريكية ضد أهداف عسكرية في سوريا. كل هذه مواقف تتلاقى مع السياسات الأمريكية وتتعارض مع توجهات لوبان لا سيما تأييدها لروسيا. لو فازت لوبان لكانت فرصة ذهبية لخصوم ترامب لكي يتهموه بدعم رئيسة معادية للسامية وعنصرية وتتبنى مواقف ومبادئ مناقضة للتوجهات والقيم الأمريكية، فضلاً عن كونها دمية في يد بوتين.
الفرنسيون خدموا ترامب من حيث لا يدري
نقلا عن صحيفة الخليج