كلما ازدادت إسرائيل تطرفاً وجنوحاً نحو العنصرية، ازداد الفلسطينيون «اعتدالاً» وميلاً للقبول بكثير من معطيات الأمر الواقع المفروضة بقوة الدبابة والبلدوزر … وكلما تبارت الأحزاب الصهيونية وتسابقت لقضم المزيد من الأرض والحقوق و«الذاكرة» و» التاريخ، جنح الفلسطينيون للتباري والتسابق لإظهار «حسن النوايا» وإبداء قدر أعلى من «الواقعية» و«العقلانية» و«التحضر».
لو أن هذه العملية، في الجانب الفلسطيني، تأتي في سياق تنامي عناصر القوة والاقتدار، أو ما يمكن وصفه بمرحلة صعود الحركة الكفاحية والنضالية لهذا الشعب، لقلنا أنها تصدر عن طرف مقتدر، وأن هذه التحولات في الموقف والخطاب الفلسطينيين، إنما تأتي من باب تحصيل الحاصل، وأنها تسعى في كسب المزيد من التأييد والعاطف مع قضيتهم العادلة وحقوقهم المشروعة، لكن المؤسف حقاً، أنها تأتي في سياق التراجع والانحدار، الذي بدأته الحركة الوطنية الفلسطينية قبل عقدين من الزمان أو أزيد قليلاً، ولحقت به حماس لاحقاً أقله منذ العام 2007.
ولو أن هذه العملية، تنطلق من قراءة دقيقة لاتجاهات الرأي العام الدولي وموازين القوى الإقليمية والدولية، وكإجابة على سؤال ما هو ممكن وما هو متعذر، لقلنا إن لـ «العقلانية» مطرحا في الخطاب الفلسطيني، ولـ «الواقعية» مكانة في العقل السياسي الفلسطيني … لكن ما يجري حقيقة هو تعبير عن «اليأس» و«الإحباط»، بل و«الهزيمة» من جهة، ويندرج في سياق الصراع الفلسطيني الداخلي على «سلطة لا سلطة لها»، وفي مسار التأهل وإعادة التأهل، للحصول على «المقبولية» الدولية، ودائماً في سياق الصراع بين «الإخوة الأعداء» من جهة أخرى.
ولو أن هذه العملية تندرج في سياق حشد الجهود والطاقات العربية، لمواجهة أوسع وأشمل مع إسرائيل، وبلغة العقل والمنطق والحكمة، وليس على طريقة «اتجوّع يا سمك»، لقلنا إن ثمة «طفرة» في العقل الفلسطيني والعربي في إدارة الصراع مع عدوهم الأول، لكن أن تندرج هذه التحولات في سياق عملية «حرف الصراع» و«تبديل الأولويات» لإسقاط صفة العدو عن إسرائيل، وإلحاقها بإيران، تحت شعار «الحل الإقليمي» ، فتلك مخاطرة كبرى، لن تنتهي إلا بتصفية قضية الشعب الفلسطيني الوطنية.
إسرائيل تمضي في قضم الضفة قطعة تلو أخرى، وتعمل على تدمير فرص «حل الدولتين»، فيما الفلسطينيون سائرون على طريق «حل دولتين» من طراز آخر، فهم لاهون في تشييد «دويلة» ما تبقى من الضفة والإفراج عن «إمارة» غزة … إسرائيل تواصل سن القوانين العنصرية والتمييز العنصري، من محاربة الآذان إلى قانون «القومية اليهودية»، ونحن نتقدم خطوة ونتراجع أخرى عن دعم إضراب الحرية والكرامة، وسط مساع لا تخفى على أحد لـ«شيطنة» شهداء فلسطين وأسراها «أيقوناتها»، وتسعى في تقطيع مصادر الدعم والإسناد لعائلاتهم وأطفالهم.
إسرائيل تسعى في تفكيك حملات المقاطعة ومساعي محاربة التطبيع فيما تشتد حملات المقاطعة الفلسطينية لقطاع غزة، ودائماً في سياق تكريس الانقسام ومأسسته وإدامته … حتى أن الجهد المبذول في تبرير القرارات الأخيرة بخصوص القطاع، تكاد تبتلع كل جهد لمواجهة الاحتلال والاستيطان ومقاطعته وعزله.
الاعتدال ميزة، من دون إفراط او تفريط، والاعتدال يمكّن من اشتقاق أدوات كفاحية عادلة ومشروعة، تليق بعدالة القضية الفلسطينية وشرعيتها … لكن شتان بين اعتدال واعٍ وآخر متهافت … اعتدال يعظم المزايا وأوراق القوة ويبني عناصر الصمود والاقتدار، وآخر يزرع اليأس والإحباط، ويُفرِط في تقديم القرابين من كيس الشعب الفلسطيني وصلب مشروعه الوطني… اعتدال يقود الخطاب الرسمي ولا يفرض نفسه على مختلف الكيانات والمكونات الفلسطينية، ويلغي تعدديتها، ولا يضع الفلسطينيين جميعاً، على مضمار الهرولة للحصول على أوراق الاعتماد المطلوبة من واشنطن، واستتباعاً تل أبيب، ولنا في تجربة «الاعتدال» الإسرائيلي، نموذجاً عمّا يتعين فعله وما لا ينبغي الإقدام عليه، تحت شتى الظروف والمنعطفات.