نون والقلم

«الفرخة» التي خلفت الديوك!

ما كتب عن الحاجة فرحة، يستحق أن يروى لكل الأجيال العربية قبل النوم وبعد النوم، بل تستحق حياة هذه الحاجة أن تتحول إلى فيلم ملحمي، بدلا من رواية قصص العاهرات والساقطات على «الريد كاربيت»!

سأحاول أن أنتقي مواقف من حياة هذه الجدة الفلسطينية، حسب ما تتيح المساحة المخصصة لهذا المقال، وإن كانت تستحق أن تفترش كل المساحات المتاحة في الوجدان الجمعي العربي!

الحاجة فرحة والدة الأسيرين نائل وعمر البرغوثي، نادى عليها الجندي في يوم الزيارة

فرخة..فرخة، فردت عليه: أنا فرخة، بس خلفت ديوك عشان يلعنوا ابوك!

فرحة، هي البنت الاخيرة والوحيدة لطبيب الاعشاب رباح البرغوثي، ولكنها لم تحظ بدلال آخر العنقود، فقد توفي والدها مبكرا وتبعه شقيقها البكر ادريس، فعايشت الحزن عليهما طويلا. جمعت الحطب يوما بعد يوم، وعملت في الزراعة بكل جد واجتهاد. تغيبت عن المدرسة فعوضت ذلك بحفظ اجزاء من القرآن، ونمّت موهبتها الموروثة عن جدها الزجال علي البرغوثي فأبدعت في كتابة وترديد الشعر الشعبي.

تزوجت قريبها صالح عبد الله البرغوثي، انجبت وطبخت وعجنت وخبزت، وربت وعلمت، ولما كبر الابناء ناضلوا ودخلوا المعتقلات محكومين بمؤبدات، وحجزت هي مقعداً مؤبداَ في حافلات الصليب الاحمر على مدار ثلاثين عاما، سابقت خلالها عجلات الباص للانطلاق مع الفجر نحو سجون: رام الله، نابلس القديم، جنيد، الخليل، نفحة، عسقلان، بئر السبع، ريمون، هداريم، هشارون، الرملة، ايشل، تلموند، جلبوع، شطة وغيرها، لزيارة الولدين عمر ونائل وابن عمهما فخري ثم الحفيدين عاصف وعاصم.

خاضت اضرابها الأول عن الطعام سنة 1980 تضامناً مع الأسرى والأسيرات، وفي الزيارة أخبرها عمر أنهم أضربوا 12 يوماً عن الطعام، فقالت له إنها أضربت 13 يوماً، وفي عام 1987 ورغم مرضها ومعارضة الاطباء، اضربت واحدا وعشرين يوماً اسنادا لأسرى معتقل جنيد، ورفضت أن تفك اضرابها إلا بعد زيارة نجلها نائل في السجن..

في احدى زيارات السجن قال لها نائل: غَلبّتك يمّا. جاوبته مبتسمة: «يا بني مين طالع له يزور كل فلسطين على حساب الصليب الأحمر. شفت الساحل والجبل والبيارات والصحاري مجاناً وعلى نفقة الصليب»..

وفي زيارة أخرى دققت الحاجة فرحة بدموع امرأة مسنة تبكي نجلها الأكاديمي المعتقل، سألتها عن فترة حكمه، أجابت تسعة أشهر. قالت لها: ان شاء الله بيروح معك اليوم؛ إذا وافقت إدارة السجن على اضافة حكم ابنك إلى مؤبد ابني نائل. صمتت المرأة وابتلعت لسانها ومسحت دمعها.

كان نائل يحرص على تهريب أي شيء يستطيع من خلاله توثيق حياة الاسير، وخلال احدى الزيارات، سَلَمها وجه فرشة أخضر وزعته الإدارة على الأسرى. جاءت في الزيارة التالية ترتدي وجه الفرشة وقد حولته إلى دشداشة. تفاجأ. فقالت له: «وجه الفرشة اللي بتنام عليه يمّا بدي أخليه على جلدي حتى تتحرر ».

اعتدى جنود الاحتلال يوما على مدرسة كوبر خلال احدى التظاهرات الطلابية في الانتفاضة الأولى، وتمكن ضباط الدورية من اعتقال أحد الطلبة. تصدت نساء كوبر لأفراد الدورية بهدف تخليص الطالب، صرخن بعالي الصوت، وزعمت كل واحدة بأنها أمه. اعترض الضابط على صراخهن، ولم يعجبه إدعاء كل امرأة بأنها والدة الطالب المعتقل. تصدت له أم عمر: «هذا الطالب له مائة أم وأب واحد. أنت لك أم واحدة ومائة أب».

قال لها الطبيب المختص عقب الفحص السريري: هناك تضخم في القلب يا حجّة. ردت عليه: «القلب بيتضخم على قد الهّم. القلب بيتضخم عشان يوسع الهموم الكبيرة يا دكتور».

توفي زوجها أبو عمر نهاية العام 2004، بعد ان كد في العمل سنوات وعانى شيخوخة كلها حسرات على غياب انجاله الشباب في المعتقلات، وتوفيت الحاجة فرحة بعده بعام!

نقلا عن صحيفة الدستور الأردنية

أخبار ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى