الغيوم تخيم بكثافة فوق التوجهات التي أظهرها الرئيس دونالد ترامب، أثناء حملته الانتخابية، لتحسين العلاقات مع روسيا، والتعاون مع الرئيس الروسي بوتين، في مواجهة عدد من مشكلات السياسة الخارجية، وعلى رأسها الإرهاب.
ترامب وبوتين أوضحا رغبتهما في علاقة أفضل بين بلديهما، بعد أن أعلن ترامب عن رغبته في رفع العقوبات التي كان أوباما قد فرضها على روسيا، بعد ضمها للقرم عام 2014. ثم راحت الغيوم تتلامس ببعضها في حجب للرؤية للمستقبل المنتظر لهذه العلاقة، منذ إصدار المخابرات المركزية بيانات عن اختراق روسيا لوسائل الاتصال الأمريكية بهدف دعم فرصة ترامب في الفوز في انتخابات الرئاسة، ثم إعلان ديفيد نونز رئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب الأمريكي، عن عقد أول جلسة استماع علنية حول تدخل روسيا في الانتخابات، وتكامل حلقات هذه النظرة مع سلسلة من المواقف الضاغطة على ترامب، أبرزها استقالة مستشاره للأمن القومي مايكل فلين بعد واقعة اتصاله بالسفير الروسي أثناء حملة انتخابات الرئاسة، وحديثه معه عن احتمال رفع العقوبات عن روسيا، ثم تعيين ترامب لجون هانتسمان سفيراً لأمريكا في موسكو، وهو ما قوبل برد فعل اتسم بالإعراب عن خيبة أمل موسكو، والقول بأن ترامب يحيط نفسه بأشخاص لا يريدون تحسين العلاقات بين البلدين أو التعاون في الحرب على «داعش».
وكان واضحاً أيضاً ما لفت انتباه موسكو في خطاب ترامب أمام الكونجرس 28 فبراير/شباط الماضي، من إغفاله أي ذكر لروسيا ضمن حديثه عن السياسة الخارجية، وتعليقاً على ذلك قال ديمتري باسكوف المتحدث باسم بوتين: لقد سمعنا بيانات مختلفة من ترامب، وأننا في روسيا ننتظر بالصبر، أية إشارات عن مستقبل علاقات واشنطن تجاه روسيا.
كل هذه المؤشرات أوضحت أن ترامب محاط بالضغوط بشأن تفكير في التعاون مع روسيا، بل إن المحلل السياسي الأمريكي ماين ماديسون قال إن ترامب لن يستطيع تحسين العلاقة مع روسيا، وأن الروس من ناحيتهم تنتابهم الشكوك في جدية المؤسسات الأمريكية، باعتبار روسيا صديقاً لهم، وأن أمامهم سجلاً طويلاً من الممارسات الأمريكية، لتطويق روسيا بعدد من الدول التي يصل إلى الحكم فيها شخصيات، إما أنها متعاطفة مع الغرب، أو أن الغرب سعى للتدخل في شؤونها، وتغيير أنظمة الحكم فيها.
والحقيقة أن العلاقة بين واشنطن وموسكو، ما زال يمسك بتلابيبها تاريخ طويل من الممارسات الاستراتيجية، التي غرست بذور العداء في هذه العلاقة. حتى إنه بعد انتهاء الحرب الباردة وسنوات الصراع، استقر في الفكر السياسي الأمريكي، أن الولايات المتحدة، أصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأن النظام الدولي صار ميراثاً للغرب وحده. عندئذ سعى الغرب لتغيير الحدود بين الدول، واعتبر أن الحدود السياسية سقطت، مما يفتح الباب أمام التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى على اختلافها. وهو ما شهدناه في فترات الفوضى التي تصاعدت منذ عام 2011، وفي التغييرات في الدول القريبة من روسيا، في انتفاضات ما سمي بالثورة البرتقالية.
ثم حدث ما لم يكن الغرب يتوقعه، عندما كسرت روسيا هذه التوقعات، إثر ما أظهره ترامب من قيادته مرحلة استنهاض صحوة قومية في روسيا، لاستعادة مكانتها ونفوذها الذي كان لها، في فترة وجود الاتحاد السوفييتي. وقتها اكتشف الغرب عجزه عن تحجيم روسيا، وعدم قدرته على فرض الطاعة على بوتين عن طريق العقوبات.
وأمام تعقيد المشكلات الدولية التي تواجه أمريكا، في أماكن متعددة، عجزت بمفردها عن حلها، فقد أدركت أنها تحتاج إلى تعاون روسيا معها في معالجة عدد من أولويات سياستها الخارجية، مثل الحرب في سوريا، والاستقرار في أفغانستان، ومواجهة الإرهاب. ورغم ما حدث من تلاقٍ في فترة قصيرة من التدخل العسكري الروسي في سوريا ضد الإرهاب، ودعم لنظام الأسد، إلا أن الفهم الأمريكي لهذا التلاقي، تحدد في أنه مؤقت أو عارض، وأن روسيا ستظل منافساً، خاصة في مناطق العالم الإقليمية، وبالذات في الشرق الأوسط.
في هذه الظروف شغلت المؤسسات السياسية في الغرب عامة، بمناقشات حول صياغة جديدة للعلاقة مع روسيا. ولما كان ترامب قد أظهر توجهاً نحو تعاون مع روسيا في مجالات محددة من السياسة الخارجية، إلا أن موجات الهجوم عليه، والتشكيك في إمكان إقامة تعاون حقيقي مع روسيا، كان له تأثيره في الإبطاء – ضمن أسباب أخرى – في إعادة التفكير في التعجيل نحو دفء العلاقة، وإعادتها إلى نقطة بداية يمكن عندها معالجتها، على أساس عدم اتخاذ أية خطوات في العلاقة مع روسيا، بمعزل عن الإطار الشامل لسياسة أمريكا الخارجية، وكذلك بالتنسيق مع حلفائها في أوروبا، وبناء على ما يواجه هذه العلاقة من تحديات وفرص.
وعلى هذا الأساس من الفهم يعود القرار بشأن شكل العلاقة بين واشنطن وموسكو، إلى دائرة المناقشات الجارية الآن في البيت الأبيض، حول مسارات السياسة الخارجية ككل، ومن ضمنها العلاقة المستقبلية مع روسيا، أي إرجاء القرار النهائي بشأنها إلى وقت قريب لاحق.
نقلا عن صحيفة الخليج