لا بيت بلا جدران. لا جدران بلا شباك وباب. ولا إنسان بلا بيت. الجدران إحساس بالأمان. مانعة للبرد وللحر. تعلق عليها صور من تحب ومن رحل، ولوحة ترى فيها الإبداع. اليوم ثمة جدران للكراهية والفصل بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان ونفسه، إنه عصر الجدران.
العالم اليوم عبارة عن جدران إسمنتية وأسلاك مكهربة وألغام تفصل الشعوب عن جيرانها، دبابات تدوس حقول القمح، تقتل البشر وتتقدم إلى الخلف، إلى الغابة التي بدأ منها الإنسان حياته. لم يعد الناي يطرب، ولا الراعي يأمن على الغنم. فقد كذب مرة وقال إن الذئب أتى، وحين أتى الذئب فعلاً لم يصدقه الناس. أكل الذئب الغنم واحتل الأرض وطرد البشر.
قيل: «عندما تسقط الدبلوماسية تعلو الجدران». وما هذه النار التي تشتعل إلا أثر الحرائق التي تشتعل في حطام سقوط الدبلوماسية وبخاصة في منطقتنا العربية التي باتت دماراً.
تشير التقديرات المسحية حسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية، إلى أن الجدران العازلة حول العالم مجتمعة يبلغ طولها نحو 40 ألف كلم أي ما يعادل محيط الكرة الأرضية. ويعتبر جدار الفصل العنصري بين أراضي الضفة الغربية المحتلة والكيان الإسرائيلي، أكثر الجدران «رمزية» في العالم حالياً.
لقد عرف العالم بناء جدران الفصل للمرة الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية العام 1945 حين عكف الحلفاء على بناء «جدار برلين» الذي يفصل بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية وتم إنجازه في عام 1961. واليوم بعد أكثر من ربع قرن على هدم هذا الجدار في العام 1989، يشهد العالم تشييد جدران وحواجز أخرى أقيمت لأسباب مختلفة.
منذ أن تعطلت لغة الحوار واستشرت بعض الدول مدفوعة بغرور القوة بنيت عبر العالم حواجز وجدران للحد من الهجرة غير الشرعية ومراقبة الحدود ومنع تهريب الأسلحة وغيرها من الأسباب، لكنها أيضاً تقسم الثقافات وتفصل بين المجتمعات. فبعد 25 عاماً على سقوط جدار برلين، تم بناء العشرات من الجدران نصفها شيّد بعد العام 2010، ولا يزال الكثير منها يقام اليوم في أماكن مختلفة.
من الحواجز التي يعرفها العالم أيضاً الجدار العازل بين شطري إقليم كشمير، والجدار الباكستاني الإيراني، والأوزبكي الأفغاني، وفي قبرص بنيت جدران لتفادي الصراعات المسلحة، وإن كانت هذه الجدران تهدف أحياناً للحد من تهريب الأسلحة والمخدرات ودخول المتسللين المتشددين، فهي تقسم أيضاً الأحياء والمدن والثقافات.
في كثير من الأحيان تبنى هذه الحواجز عنوة ضد رغبة السكان، يقول غول محمد واي المحلل السياسي «الدول لا تهتم بالثقافات وليست على بينة منها أو من التاريخ والعادات والحياة اليومية للشعوب التي تعيش في تلك المناطق. هذه الجدران تعكس فقط الألم والانقسام».
أحدث تلك الجدران هو الجدار المثير للجدل الذي ينوي الرئيس الأميركي بناؤه على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. وكان بناء هذا الجدار وتمويله من أهم الوعود الانتخابية لترامب، إلا أنه لا يزال يواجه صعوبات في الحصول على موافقة من الكونغرس للبدء في البناء.
لكن في الوقت الذي تزداد فيه الحواجز في العالم، أعلن الأسبوع الماضي عن افتتاح خط «ترامواي» جديد يربط مدينتي ستراسبورغ الفرنسية وكيهل الألمانية وذلك بعد 72 عاماً من انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في هذه المناسبة قال عمدة مدينة ستراسبورغ بونالد رايز «إن افتتاح هذا الخط يمثل بالنسبة لي رمزية كبيرة، ففي الوقت التي يرغب فيه البعض في تشييد الجدران، نحن نبني مع الألمان جسراً للتواصل».
لقد قامت السلطات الإسرائيلية ببناء جدار للفصل بين أراضي الضفة الغربية وإسرائيل، وهو أكثر الجدران رمزية في العالم حالياً. يبلغ طول هذا الجدار أكثر من 700 كلم بارتفاع 8.5 أمتار.
وفي حين تقول إسرائيل إن هذا «الحاجز الأمني» يهدف إلى حماية أمن الإسرائيليين، يرى فيه الجانب الفلسطيني جداراً «للفصل العنصري» بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كما بدأت بتشييد جدار على الحدود مع الأردن، بطول يبلغ 30 كيلومتراً، بزعم أنه لحماية المواطنين الإسرائيليين من أي تهديد قادم من الأردن، بتكلفة 75 مليون دولار.
وقالت وزارة دفاع دولة الاحتلال إن الجدار سيكون مثل الجدارين القائمين على الحدود مع مصر والجولان، ويشمل أبراج مراقبة ووسائل تقنية متطورة.
«عقلية القلعة» اليهودية هي أساس فكرة الجدران. يؤمن بها الإسرائيليون باعتبارها أرث الصهيونية القائم على العنصرية والاستعلاء وأسطورة «شعب الله المختار».
والتي أساسها الخوف من تكرار «عقدة الماسادا»، حين حاصرهم الجيش الروماني سبع سنوات، ما أجبر رجال اليهود في القلعة على اتخاذ قرار غريب لم يفهمه أحد من العقلاء عبر التاريخ: قتل النساء والأطفال والشيوخ ومن ثم الانتحار!
إنه الخوف المتجذر في الشخصية اليهودية. ولا يخاف إلا من يدرك في قرارة نفسه أنه ليس على حق. وها هم قادة إسرائيل الحاليين أمثال نتانياهو وليبرمان يقودون الإسرائيليين إلى الانتحار الثاني.
نقلا عن صحيفة البيان