في أجواء من الترقب الداخلي والدولي؛ جرت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي تميزت بمشاركة مكثفة قاربت الثمانين بالمائة؛ حيث جاءت نتائجها منسجمة إلى حد كبير مع التوقعات التي حملتها استطلاعات الرأي، بعدما توفّق كل من المرشح «إيمانويل ماكرون» و«مارين لوبان» في العبور إلى الجولة الثانية من هذه الانتخابات التي ستجرى في السابع من شهر مايو القادم.
وتحظى هذه الانتخابات التي تجرى عادة في إطار جولتين عبر الاقتراع المباشر؛ باهتمام أوروبي ودولي بالنظر إلى وزن فرنسا إقليمياً ودولياً ودورها داخل الاتحاد الأوروبي؛ واحتضانها لنسبة كبيرة من المهاجرين..
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن عدد الناخبين الفرنسيين المعنيين بهذه الانتخابات يناهز 47 مليون فرد، فيما وصل عدد المرشحين أحد عشر شخصاً من تيارات مختلفة؛ أبرزهم «إيمانويل ماكرون» (مستقل) و«مارين لوبان» (يمين متطرف) و«بونوا آمون» (يسار) و«جان لوك ميلانشون» (اليسار المتشدد) و«فرانسوا فيون» (يمين).. طرحوا برامج وشعارات متباينة؛ أثارت نقاشات مهمة بصدد عدد من القضايا الخلافية التي واكبها الرأي العام الفرنسي والدولي بقدر كبير من الاهتمام؛ كما هو الشأن بالنسبة لقضايا الهجرة واللجوء؛ والهوية ودعم الاقتصاد وتعزيز الأمن للفرنسيين ومستقبل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي..
ففي الوقت الذي ركزت فيه «لوبان» التي سبق وأن احتلت المرتبة الثالثة في الدور الأول للانتخابات الرئاسية لعام 2012 بنسبة 17.90 بالمائة؛ على مكافحة الإرهاب، ومواجهة تصاعد الهجرة؛ حيث طرحت الانسحاب من منطقة «اليورو» وتعليق العمل باتفاقية «شينغن» وطرد المتطرفين من البلاد وإعمال شروط صارمة على منح الجنسية للمهاجرين..، دون القدرة على بلورة استراتيجية اقتصادية مقنعة.. فإن «ماكرون» صاحب الخبرة الاقتصادية والتوجهات الليبرالية؛ وعد بتطوير الاستثمارات؛ وتأهيل الاقتصاد الوطني؛ كسبيل لمواجهة مختلف الإشكالات الاجتماعية المطروحة.. وبلورة سياسات عمومية تستحضر معاناة الأحياء الفقيرة؛ ومصالح الطبقة الوسطى؛ مع التركيز على الفشل الحكومي الراهن في المجالين الاقتصادي والاجتماعي؛ وعلى الهجمات الإرهابية التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة..
أما «ميلانشون» وإن كان يسعى إلى بناء علاقات فرنسية بالاتحاد الأوروبي على أسس جديدة تضمن مصالح البلاد؛ فإنه لم يتحمّس للخروج من منطقة اليورو، كما دعا إلى التمييز بين الإسلام والإرهاب؛ وإلى احترام حقوق المهاجرين، ومن جانبه بشّر «آمون» بتحقيق متوسط نمو قياسي خلال السنوات القادمة.. أما «فيون» فوعد بتخفيض نسبة الضرائب؛ وإلغاء ما يناهز نصف مليون منصب حكومي..
غير أن العملية الإرهابية التي شهدتها باريس في غمرة هذه الحملة وقبيل انطلاق العملية الانتخابية؛ أربكت هذه الاستحقاقات؛ واضطرت معها الكثير من الأحزاب إلى إلغاء تجمعاتها الشعبية لدواع أمنية. وفي الوقت الذي استنكر فيه معظم المرشحين في هذه الانتخابات العمليات؛ وأكدوا أهمية تعزيز مكافحة «الإرهاب».. شكلت هذه الأحداث فرصة سانحة لعدد من التيارات والأحزاب المتطرفة للترويج لطروحاتها القاضية بإغلاق الحدود ومنع الهجرة واعتماد تدابير أمنية صارمة في مواجهة الهجرة والمهاجرين؛ والحديث من جديد عن خطر «الإرهاب الإسلامي».. وتوجيه النقد اللاذع للحكومة الفرنسية بعدم القدرة على فرض الأمن ومنع الإرهاب، وهو ما دفع رئيس الوزراء الفرنسي «برنار كازنوف» إلى اتهام بعض المرشحين وبخاصة مرشحي اليمين «فرانسوا فيون» واليمين المتطرف «مارين لوبان» بالانتهازية وتوظيف هذه الأحداث البشعة وما أفرزته من هلع وخوف في التحريض على الكراهية لأجل كسب نقاط انتخابية ضيقة.. ملفتاً إلى التدابير والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية في سبيل محاصرة «الإرهاب» في البلاد..
وجدير بالذكر أن الرئيس الفرنسي «فرانسوا هولاند» سبق وأعلن عن فرض حالة الطوارئ؛ في أعقاب العمليات الإرهابية التي شهدتها باريس وضواحيها في 13 نوفمبر من عام 2015 وأسفرت عن مقتل 130 شخصاً؛ قبل أن يتم تمديد هذه الحالة بعد الأحداث الإرهابية الأخرى التي عرفتها مدينة «نيس» بتاريخ 14 يوليو من عام 2016 والتي قتل خلالها أكثر من ثمانين فرداً..
حلّ «ماكرون» في المرتبة الأولى بنسبة 23.75 بالمائة من مجموع الأصوات متبوعا ب«لوبان» بنسبة 21.53 بالمائة، فيما حصل «فرانسوا فيون» على المرتبة الثالثة بنسبة 19.91 بالمائة؛ و«ميلانشون» على 19.64، بينما تموقع المرشح «بونوا آمون» في المرتبة الرابعة بنسبة 6.36 بالمائة.. وتشير هذه النتائج إلى تراجع حضور الأحزاب التقليدية في مقابل تنامي دور المستقلين والجبهة الوطنية ذات التوجه اليميني المتطرف..
وأمام هذه الوضعية، دعا الكثير من القادة السياسيين داخل فرنسا إلى الانضمام للتصويت على المرشح المستقل «إيمانويل ماكرون» في مواجهة «ماري لوبان» المرشحة عن حزب الجبهة الوطنية، خلال الجولة الثانية من هذه الاستحقاقات.. وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي هولاند معتبراً أن «اليمين المتطرف خطر على البلاد»، ونفس الأمر طرحه كل من المرشح الاشتراكي «بونوا آمون» ورئيس الوزراء الأسبق، اليميني «آلان جوبيه».. كما أن المرشح «فيون» دعا مناصريه إلى التصويت لصالح «ماكرون» حماية لفرنسا مما أسماه «بالإفلاس» الذي ينتظرها في حال فوز «لوبان».. فيما بادر رئيس المفوضية الأوروبية «جان كلود يونكر» إلى تهنئة «ماكرون» بهذا الفوز، كما سارع وزير الخارجية الألماني إلى الإعراب عن تفاؤله بشأن المسار الأوروبي مع فوز هذا المرشّح..
لا شك أن اعتبارات كثيرة ستتحكم في نتائج الدورة الثانية من هذه الانتخابات؛ فالتأييد والدعم الذي تلقاه «ماكرون» يحيل إلى إمكانية تكرار تجربة الدور الثاني للانتخابات الرئاسية لعام 2002 عندما فاز المرشح «جاك شيراك» على منافسه «لوبان» الأب بنسبة 80 بالمائة من الأصوات؛ بعد انضمام مختلف الأحزاب والتيارات إلى دعمه..
كما أن عدداً من الفرنسيين المتردّدين الذين لم يصوتوا أو يحسموا اختيارهم سيجدون أنفسهم أمام مرحلة تقتضي الاختيار بين مرشحين لا أكثر.. فيما تشير الممارسة على أن التصويت في الدور الأول غالباً ما يكون منفعلاً بصراعات وشعارات الحملة الانتخابية؛ فيما يتخذ قدراً من التأنّي في الدور الثاني بما يخدم «ماكرون»..