أكثر الأسئلة إلحاحاً في العراق الآن وقد اقتربت معركة الموصل من الحسم: ماذا بعد «داعش»؟
النذر تتطاير في المكان والمخاوف تأخذ مداها من أن يكون على شفا التقسيم.
هناك مساران متداخلان لتفكيك ثاني أكبر دولة عربية.
الأول يسابق الزمن بقوة السلاح في لحظة اختلال موازين تحت عنوان «انفصال كردستان العراق».
والثاني يترقب دوره بأثر الصراعات المذهبية وغياب أية رؤية تضمن تماسك الدولة المتداعية.
بتعبير الزعيم الشيعي النافذ «عمار الحكيم»: «قيام دولة كردية يدفع البلاد إلى التجزئة، وأن تطالب أطراف أخرى بانفصالات مماثلة».
وقد كانت زيارته إلى العاصمة المصرية دعوة صريحة في الوقت بدل الضائع لإنقاذ العراق من التقسيم الماثل.
في تلك الزيارة استعرض بالتفاصيل، مع كبار المسؤولين والشخصيات العامة الذين التقاهم، مبادرة لها قوام واضح أطلق عليها «التسوية الوطنية» تستند إلى ركائز أساسية هي: وحدة التراب العراقي وعروبته واستقلال قراره.
أهمية المبادرة تعود، أولاً، إلى توقيتها، فإقليم «كردستان» يتأهب لإجراء استفتاء عام للانفصال عن الجسد العراقي، ورئيسه «مسعود البرزاني» يواصل اتصالاته الدولية لدعم تلك الخطوة، ورغم أنه لم يسم الأطراف التي يقول إنها تدعمه، فباليقين أن «إسرائيل» من بينها، وربما تكون الوحيدة المستعدة للاعتراف ب«الدويلة الجديدة»، حسب تأكيدات «الحكيم».
الأخطر من ذلك أن قوات «البيشمركة» استولت على مدينة «كركوك» العراقية الغنية بالنفط وغيرت بنيتها السكانية ورفعت العلم الكردي فوق البنايات الحكومية، كأنه «ترسيم حدود بالسلاح والدم»، كما حذر عن حق في القاهرة.
ذلك مشروع حروب مقبلة قد تشارك فيها تركيا وإيران المهددتان في بنية دولتيهما، التي تنطوي على أقليات كردية قد تطلب بدورها الانفصال.
وسط الإشارات المتضاربة لا توجد ثقة كبيرة في التعهدات الأمريكية لحكومة «حيدر العبادي» بعدم انفصال الكرد.
إضافة إلى مشروع الانفصال الكردي هناك مخاوف أخرى على ذات درجة الخطورة أن تدخل المناطق المحررة من قبضة «داعش» تصفية حسابات مذهبية أكثر تدميراً. تلك المخاوف تجعل من انفصال «دويلة سنية» أمراً غير مستبعد.
في واحد من السيناريوهات الكابوسية فإنها الدولة الفاشلة التي لا تحفظ أمناً ولا تحقق استقراراً ولا تضمن لمواطنيها أبسط حقوقهم الإنسانية، وهو يؤسس لإعادة إنتاج «داعش» بصيغ جديدة.
«الحكيم» أبدى ملاحظة لافتة تستحق التوقف عندها واستخلاص رسائلها، فقد استقبل أهالي الموصل «داعش» بالزغاريد عند اقتحامها بظن أنها ستنقذهم مما كانوا يعانونه من إقصاء وتهميش، غير أنهم بعد التجربة الدموية المريرة، استقبلوا بذات الزغاريد القوات العراقية في المناطق المحررة من المدينة. كيف نوقف اضطراب المشاعر ونصل إلى توافق يضمن الطمأنينة والعدل والمواطنة؟
ذلك هو موضوع المبادرة التي تعود أهميتها، ثانياً، إلى الثقل السياسي لصاحبها في المعادلات العراقية، وأن ما يقوله يعبر عن رؤى وتوجهات لها أساس على الأرض أوسع من «التحالف الوطني»، الذي يتزعمه ويحظى بأكثرية برلمانية.
المبادرة في خطوطها العريضة واضحة ومتماسكة وعلى قدر كبير من إدراك تعقيدات الموقف العراقي، والتفاصيل ضرورية لفهم حدودها وطاقتها، كما حدود الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر وعالمها العربي.
إذا ما تفكك العراق ضاعت سوريا للأبد وضرب زلزال التقسيم باقي المشرق العربي في لبنان والأردن، ممتداً أثره إلى إلغاء أي حق فلسطيني وتصاعد النفوذ «الإسرائيلي» في الإقليم ودخول الدول العربية الأخرى، بلا استثناء تقريباً، في حزام التقسيم.
في رأي «عمار الحكيم»، كما استمعت إليه، أن التأكيد على عروبة العراق مسألة هوية أساسية لا تنفي الاعتراف بالتنوع العرقي في بنية المجتمع وضرورة حفظ حقوق الأقليات، وذلك يتطلب إعادة صياغة الدولة من جديد كدولة «مواطنة» لا «محاصصة مذهبية وعرقية».
كما من رأيه أن «استقلال القرار الوطني من طبيعة الشخصية العراقية»، والذي لا يدرك أبعاد تلك الشخصية لا يعرف شيئاً عن العراق. وفي تقديره فإن أفضل صيغة لخفض الاحتقانات المذهبية وبناء توافقات تؤسس لدولة جديدة هي: «لا غالب ولا مغلوب»، وفق ما اعتاده اللبنانيون في تجاوز أزماتهم المستعصية.
ذلك يستدعي أن تقدم جميع الأطراف المتنازعة من سنة وشيعة وكرد تنازلات متبادلة بمرونة طلباً للتوافق.
بصياغة أخرى لافتة، فإن «الدولة الديمقراطية عمدة التسوية الوطنية».
في التفاصيل هناك معضلتان تعترضان تلك المبادرة.
الأولى: إن تصوره لعقد اجتماع إقليمي تحتضنه القاهرة يضم إلى العراق ومصر السعودية وتركيا وإيران، يكاد يستحيل في الظروف الحالية التئامه بالنظر إلى تعقيدات العلاقات بين الأطراف المدعوة وتداخل الأزمات الإقليمية بما يصعب الفصل بينها.
ربما الأوقع العمل على التوصل، بالوسائل الدبلوماسية المتاحة، لتوافقات حد أدنى تضمن عدم تقسيم العراق، والنظر إلى أزمته كمفتاح ممكن للأزمات الأخرى المستعصية والثانية: معضلة «الحشد الشعبي»، وفي نظر «الحكيم» أن دوره كان ضرورياً لمنع سقوط بغداد في قبضة «داعش»، حيث كانت على بعد عشرين كيلو متراً من عاصمة الرشيد.
برغبة ترميم الصورة طلب رجل الدين الشيعي النافذ من الإمام الأكبر «أحمد الطيب» أن يرسل وفداً رفيعاً من كبار علماء الأزهر الشريف إلى العراق ليعاين ويتفقد الأوضاع على الطبيعة وحقيقة أحوال السنة في المناطق المحررة حتى توضع الأمور في نصابها وحجمها وإطارها، وأن يذهب الوفد نفسه إلى الجنوب حيث لجأ نحو مليون عراقي سني إلى المناطق ذات الأغلبية الشيعية ليتأكد من أنهم يعاملون كمواطنين عاديين.
الرسالة بذاتها جديدة واللغة إيجابية والنوايا مفتوحة على إزالة الاحتقانات المذهبية، وقد بدا «عمار الحكيم» أمام محاوريه القاهريين رجلاً متزناً يعرف ماذا يقول، يختار عباراته بعناية، وأفقه مفتوح على الحوار والتفاهم حتى لا يضيع العراق.. ولعلها الفرصة الأخيرة قبل طوفان التقسيم.