تعاقب القيادات الأميركية لا يعني أن الاستراتيجية الأميركية إزاء المنطقة لم تتغير بالكامل، برحيل صاحب مشروع الشرق الأوسط الكبير «بوش الابن» والمحافظين الجدد، بل بقيت الأهداف المعلنة وغير المعلنة، وما تغير فقط هو العنوان والمداخل التي أفضت إلى الصورة الحالية.
الاحتلال الأميركي للعراق قد أفسح الطريق أمام إيران لتعميق نفوذها، في العراق السياسي والثقافي والاقتصادي والعسكري، وتعزيز مشروعها الإقليمي في السيطرة في أكثر من دولة عربية، سوريا، ولبنان، واليمن، كذلك فتح تفكيك العراق الطريق لتدعيم النفوذ الإقليمي لتركيا في سوريا والعراق، وساهم في إضعاف العالم العربي وإرباكه.
أما بما يتعلق بما عرف بثورات الربيع العربي فمن الصعب القول بغياب الولايات المتحدة الأميركية والغرب عن هذه الأحداث والاحتجاجات التي أفضت إليها، كما أنه يصعب تصور أن الولايات المتحدة الأميركية هي المحرك الرئيسي للأحداث على النحو الذي جرت به.
فإذا كانت هذه الثورات -وهى كذلك بالفعل- نتيجة لتراكمات وإحباطات وتطلعات المواطنين في السعي نحو الحرية والديمقراطية وإنهاء التسلطية ونتيجة الجمود والركود الذي أصاب بنية هذه الأنظمة وعدم جديتها في إجراء الإصلاح المطلوب، فإن ذلك لا يمنع من قيام الولايات المتحدة الأميركية بدور في مجرى الأحداث.
هذا الدور الأميركي ارتبط بادئ ذي بدء بهاجس أمن إسرائيل ولم تنظر الولايات المتحدة عملياً إلى هذه الثورات إلا من خلال هذا المنظور؛ أي منظور أمن إسرائيل وألا تفضي هذه الثورات إلى نظم معادية لإسرائيل أو قادرة على إلغاء ما عقد معها من اتفاقيات.
الولايات المتحدة بذلت ما في وسعها لكي تحول دون أن تتبنى النظم الجديدة، نظم ما بعد الثورات، سياسات راديكالية تخرج عن نطاق النيوليبرالية الاقتصادية وتتبنى سياسات شعبية واجتماعية تتجاوز أفق ما هو معمول به طيلة هذه العقود.
وذلك فضلاً عن دور المنظمات الأميركية الحكومية وغير الحكومية في تمويل الجمعيات الأهلية والناشطين في مجالات حقوق الإنسان والتغيير. المباركة الأميركية لصعود الإسلام السياسي والتيقن من أن إسرائيل سوف تكون آمنة مع هذا الصعود، هو الذي أكمل مبادرة الشرق الأوسط الكبير.
حيث أفضت هذه السيطرة إلى نشوب العنف والنزاعات المسلحة، وأفضى إلى انتشار السلاح والإرهاب بهدف القضاء على الدولة الوطنية العربية وإقامة نظم حكم إسلامية تستهدف تطبيق الشريعة وإقامة «الدولة الإسلامية»، وتعميق التبعية للغرب، وتغييب سياسات الاستقلال الوطني.
كما أن سيطرة الإخوان المسلمين على الحكم في مصر سيهدد روسيا في القوقاز الشمالي وما وراء القوقاز وآسيا الوسطى.
وكذلك مقاطعة «شينجيانج» ذات الأغلبية المسلمة في الصين، لخدمة مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية إزاء روسيا الاتحادية والصين، خاصة وأن مواجهة السوفييت في أفغانستان ارتكزت على دعم الإخوان المسلمين والجماعات الموالية لهم من خلال تجنيد المجاهدين في أفغانستان.
وبناء على ذلك فإن تأييد ومباركة الولايات المتحدة لسيطرة الإسلام السياسي والإخوان المسلمين على الحكم في الأنظمة العربية التي أعقبت الثورات، كان صادراً عن قناعات واستراتيجيات بلورتها.
وصاغت ملامحها مراكز الدراسات الاستراتيجية ودوائر التخطيط السياسي والاستراتيجي ودوائر المخابرات، التي كانت همزة الوصل في التفاهمات والعلاقات بين أميركا وحلفائها الجدد من الإسلاميين، فضلاً عن سابق خبرة هذه الدوائر في التعامل مع الإسلام السياسي لتحقيق الأهداف الأميركية في أفغانستان لمواجهة السوفييت آنذاك.
الشرق الأوسط الكبير وامتداده، أي الشرق الأوسط الجديد، هو محور السياسة الأميركية والغربية تجاه المنطقة وترتكز هذه السياسة على أن الشرق الأوسط بحدوده القائمة عفا عليه الزمن.
وأن تقسيم سايكس بيكو عام 1916 قد تآكل وتدهور ولم يعد يستجيب لحاجات المنطقة، والاستراتيجية الأميركية، وضرورة تفكيك الدول القائمة إلى دويلات تضم طوائف ومذاهب، وهذا المسار من الطبيعي في المنظور الأميركي أن يتعمد بالدم والعنف ومن غير المتصور أن يمر مر الكرام.
هذا المسار وإن كان قد نجح جزئياً في ليبيا وسوريا والعراق واليمن إلا أنه تعثر في حالة مصر بالذات، حيث أدركت طبيعة هذا المخطط نظرياً وعملياً، بعد عام من حكم الإخوان في مصر، وتطلعهم إلى حكم سوريا في حال سقوط النظام السوري بتأييد أميركي.
وتمكنت مصر بفضل قواتها المسلحة وقيادتها من عبور هذه المحنة في الثلاثين من يونيو عام 2013 وتبذل قصارى جهدها لإنقاذ ليبيا ودول عربية أخرى من هذا المصير.