عندما يطالب وزير «إسرائيلي» كبير بإعدام الأسرى الفلسطينيين، رداً على إعلانهم الإضراب المفتوح الذي صادف «يوم الأسير الفلسطيني» (17/4/2017)، فإن هذا الموقف بما يعكسه من «جنون في الوعي» يفضح أحد أهم أركان «نظرية الأمن الإسرائيلية»، التي تعتبر في واقع الأمر ليس مجرد نظرية أمنية، بل هي «نظرية الوجود الصهيوني» ذاته على أرض فلسطين. كل ما فعله الأسرى الفلسطينيون أن ما يقرب من 1500 أسير من كافة القوى الوطنية الفلسطينية، يقودهم الأسير القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي، المحكوم بالسجن مدى الحياة خمس مرات، أنهم قرروا مقاومة الاحتلال والانتهاكات التي ترتكب بحقهم وبحق وطنهم بالإضراب عن الطعام، وأن الاسم الذي اختاروه لهذا الإضراب على نحو ما ذكر مروان البرغوثي هو «إضراب الحرية والكرامة».
لهذا السبب كانت دعوة «يسرائيل كاتس» وزير الاستخبارات والنقل في الحكومة «الإسرائيلية» عن حزب الليكود، إلى «إعدام هؤلاء الأسرى»، وطالب بضرورة إعادة تفعيل مشروع قانون إعدام الأسرى، والتصويت عليه في الكنيست. هذا الموقف رغم خطورته، ليس موقفاً شخصياً متفرداً لهذا الوزير، لكن يبدو أنه موقف عام وسياسة مشتركة لدى حكومة الكيان، عبّر عنه أكثر من مسؤول «إسرائيلي». فقد سبق أن طالب أفيغدور ليبرمان وزير الحرب الحالي، بفرض قانون يقضي بتحويل المحاكم العسكرية إلى إنزال عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين.
سياسة أو دعوة قتل الأسرى الفلسطينيين، هي ذاتها سياسة قتل المتظاهرين، وهدم المباني، والتوسّع الاستيطاني، واقتلاع أشجار الزيتون، ورفض دعوة حل الدولتين، كلها سياسات ذات معنى واحد، هدفها إنهاء وجود الشعب الفلسطيني كي تبقى «إسرائيل» وحدها على هذه الأرض «من النهر إلى البحر».
فقد ارتبطت نظرية الأمن «الإسرائيلية» تاريخياً بالأزمة الوجودية للكيان الصهيوني، بمعنى أن ما تعيشه «إسرائيل» من تهديد لوجودها «الاستثنائي» في فلسطين العربية هو الذي يحدد أركان هذه النظرية، من منطلق أن الهجوم خير وسيلة للدفاع. فحدود التقسيم التي رسمت للكيان الصهيوني عام 1948 اعتبرت مجرد نقطة ارتكاز وانطلاق لبناء «الدولة اليهودية» التوراتية على كل أرض فلسطين، ومن ثم كان اعتبار التوسع في الجوار الفلسطيني أولاً «الضفة الغربية وقطاع غزة» لبناء الدولة القاعدة أو المركزية للمشروع الصهيوني، ثم الانطلاق للتوسع ثانياً في الجوار العربي، على نحو ما حدث عقب عدوان يونيو 1967 هو أفضل وسيلة لتأمين وجود الدولة اليهودية بحدود عام 1948. وبعدها أصبح التوسع سياسة أمنية معتمدة، كما اعتبر التفوق العسكري المطلق والنوعي على كل الدول العربية ركناً ثانياً في نظرية الأمن «الإسرائيلية»، وكان لا بد من توفير ركن ثالث ضامن لهذين الركنين، أي قادر على حماية الأمن والوجود «الإسرائيليين» وتوفير كل متطلباته، وهذا تحقق من خلال العلاقة الفريدة من نوعها التي ارتبط بها الكيان الصهيوني بالولايات المتحدة، والتي تعهدت، وعلى مدى تاريخ وجود هذا الكيان، ومع اختلاف الإدارات الحاكمة في واشنطن جمهورية كانت أم ديمقراطية، بتوفير التفوّق العسكري النوعي المطلق للكيان على كل الدول العربية، ناهيك عن الدعم السياسي والإعلامي والاقتصادي.
لقد تجاوزت الولايات المتحدة حدود هذا التفوّق النوعي الكامل للكيان الصهيوني، وقامت بأدوار مباشرة لخدمة أهداف الكيان بالتدمير المباشر للقدرات العسكرية والاستراتيجية العربية، بدءاً بالعراق عام 2003، وقبلها احتواء أدوار وقدرات دول عربية أساسية ومحورية في الصراع مع الكيان الصهيوني من خلال اتفاقيات سلام على نحو ما حدث مع كل من مصر والأردن، ثم جاء الدور على سوريا، والآن جاء الدور على الشعب الفلسطيني ذاته، بدعم التهرب «الإسرائيلي» المتعمّد من الالتزام بالقرارات الدولية، بهدف تجهيل القضية الفلسطينية عالمياً وتجاوزها إقليمياًَ، بفرض قضايا وملفات أخرى ذات أولوية أعلى بالنسبة لدول عربية بذاتها، قادرة على تهميش أولوية القضية الفلسطينية، وقادرة على إخراج دول عربية من دائرة الالتزام كطرف مباشر في صراع عربي مع «إسرائيل». وذلك بتأييد ودعم رؤى «إسرائيلية» لا تتجاوز فقط «حل الدولتين» بل وحل «الدولة الواحدة ثنائية القومية»، على نحو ما تحدث عضو الكنيست موتي يوجاب. فحسب رؤيته يقول «لم تكن هنا أبداً (يقصد على أرض فلسطين) أي دولة فلسطينية، وإلى الأبد لن تقوم. إن جزءاً من الرد على الإرهاب (الانتفاضات الفلسطينية)، هو التأكيد أن عودتنا إلى يهودا والسامرة (يقصد الضفة الغربية المحتلة) تمت لترسيخ سيطرتنا والبقاء فيها للأبد».
وفق هذه الرؤية فإن المطلوب ليس قتل الأسرى فقط بل إبادة كل الشعب الفلسطيني كي تبقى «إسرائيل»، وهذا هو جوهر النظر إلى الصراع باعتباره «صراع وجود»، أي وجود طرف واحد هو الشعب «الإسرائيلي» وفناء كامل للشعب الفلسطيني.. هكذا يخططون، وهذا هو السلام الذي يريدونه، السلام الذي يحقق الأمن، والأمن الذي يضمن الوجود والبقاء لكيان يدركون في أعماقهم أن وجوده طارئ واستثنائي ولن يدوم.