صدق من قال إن السياسة مسكن الشياطين، تفسد القيم وتدفع تجاه الخراب، تخدر العقل وتلمع العواطف وتشعل الحماس وتلهب الجماهير، وتنهي زعامات أحرقتها نيران التهور، وتملأ طريق جهنم بالنوايا الطيبة.
ولا تخرج الكويت من هذا الواقع المنتشر في بطن السياسة، ففي ساحتها تربة جاذبة للمحترفين في إشعال عالم السياسة بالأطياف الخادعة والهادمة للتعقل واستحضار الفتن الخادعة والحيرة بين المقبول والمبتذل، بين الواقع الحياتي وبين الأوهام في عالم الزار السياسي.
قرأت تصريحات بعض النواب حول استجواب رئيس الوزراء وبنغمة الإصرار على قرب تفعيل المساءلة لأن الشيخ جابر المبارك لم يحقق لهؤلاء المستجوبين ما يتطلعون إليه، فأخذهم العناد إلى آفاق المواجهة مع رئيس الوزراء في قاعة البرلمان، في مكان واسع ومفتوح يقولون فيه كل ما يريدون، ويستمع إليهم الناس متابعين باحثين عن مبررات عقلانية تبرر هذا الاشتعال الحماسي، فتسمع الكثير من المشاغبات والكثير من الأقوال التي لا تقوم على استقامة المنطق، لكنها أيضا من صنع المتذمر الباحث عن التنفيس بالكلمات الصادمة والمنفرة، كما يستمتع المشاهدون بالكثير من المفردات الصاخبة والتعليقات الغاضبة والتعبيرات الطريفة، فتلتقي الفكاهة بالغضب ويتغطى الاخفاق بالتهديد.
الوطن، بأفراده وبكل محتوياته – الأفراد والأجهزة وآليات التصوير ومحاضر التسجيل – يشكل مرجعية لأجيال قادمة ترى في الجدل تراثاً جامعاً فكاهياً مضحكاً، ولساناً سليطاً، تسليات ومشاغبات، كلها تكشف عن بساطة لتسطيح تجربة لها مغزى عميق في حياة الكويت البرلمانية، فهذه التجربة البرلمانية وضع بذورها المؤسسون الأولون، وأشرفوا على نموها وتعهدوا برعايتها، لأنها في حكمهم، هي الطريق الوحيد للحكم الراشد المنفتح.
ولم يكن في بالهم أن يدون التاريخ أن من جاء بعدهم، تجاسروا على رئيس الوزراء بإعطائه مهلة زمنية لتنفيذ مطالبهم، وإذا تعثر في ذلك فالقرار أن يقف رئيس السلطة التنفيذية على منصة المساءلة يتلقى فيها النقد اللاذع وينهال عليه فيضان غاضب من لسان لا يراعي الخاصية المعنوية التي يمنحها المجتمع لمقام رئاسة الوزراء، كل ذلك لأنه عجز أن يلبي طلبات النائب اللامعقولة، والتي يصطدم كثير منها بالقوانين وقواعد الانضباط.
التوجه النيابي الذي يتمثل في تصريحات نواب المعارضة الواسعة، ليس فيه ما يفيد الوطن، وليس بوسع رئيس الوزراء الحالي أو غيره الاستجابة إلى المستحيل، في استعادة الجناسي من دون إخضاعها للقوانين، وإعادة موظفين مسرحين، وفتح ملفات ساخنة من دون مبرر، فَجَرّ رئيس الوزراء إلى الخناقات بين النواب وتعارض مواقفهم وتناقض طلباتهم لا يفيد الكويت، وإنما يعرض البلد للهزات، ويسبب البلبلة الاجتماعية والفوضى السياسية، ويزيد من حدة خيبة المواطن بالتجربة وبنوابها بعد أن تكاثرت الصراعات وطغت نزعة القصاص واتسعت مساحة المشاغبات.
تجربة الكويت التي كنا نحلم بتأثيرها على الإقليم الخليجي داخل مجلس التعاون غير قابلة للمحاكاة ولا للاقتباس، فالرأي العام هناك يتابع ويناقش ويحقق في أبعاد هذه التجربة التي عرضت المجتمع الكويتي لهزات وأضعفت الطابع المدني للمجتمع الذي كان تراثه أساس الحياة البرلمانية، لكن هذا الحلم اختفى وتلاشى، بعد أن تعرضت التجربة العقلانية الناضجة للضربات في جذورها وفي تربتها بعد أن اتسعت الخريطة الديموغرافية الكويتية وجاء التحول مع إدخال العصبيات الطائفية والقبلية والفئوية، وتصاعد السباق نحو الفوز بالمكاسب التي تعمق وترسخ هذه العصبيات.
أقرأ ما تنشره الصحافة عن إنذارات بعض النواب لرئيس الوزراء، وأستذكر أن تاريخ الكويت حتى الأمس القريب لم يشهد هذا التطاول العصبي نحو من يقود السلطة التنفيذية، ويشرف على تنفيذ القوانين وخطط التنمية.
كان أسلوب الرواد الابتعاد عن دروب الاستفزاز والسعي الجاد لتعزيز التعاون بين البرلمان والحكومة في إطار التفاهم والسعي المشترك الذي من دونه لن تتمكن الكويت من محاكاة المستقبل.
ومن هذه التبدلات في التجمعات السياسية الكويتية برزت هذه التناحرات، وطغت حالة التأزم الدائم المتسيد للعلاقات بين المجلس والحكومة التي تتبنى أسلوب التساهل والحلول الغريبة، كل ذلك تحاشيا لاتخاذ قرار أبغض الحلال، وكل ذلك على حساب الكويت وأمنها وانسجامها الداخلي.. كان الله بعون الكويت وأهلها.
43 2 دقائق