أخطر ما جرى في أعقاب العمليتين الإرهابيتين بكنيستي طنطا والإسكندرية ذلك الصخب تحت قبة البرلمان، الذي يستخف بالدستور، ويُعرِّض به ويدعو إلى إلغائه.
كان ذلك سحباً على المفتوح من خزان الشرعية، فهو يفيض وينضب بقدر ما تسنده أو تخذله السياسات. بالكلام المتفلت بدت قضية الشرعية بين قوسين كبيرين.
وهذا آخر ما تحتاجه مصر في حربها الضارية مع الإرهاب.
الشرعية كخيوط الصلب قد لا تُلحظ بالعين العابرة، لكنها تستعصي على الكسر، ما دام البنيان العام متماسكاً. هناك عنوان واحد للشرعية هو الدستور، ولا توجد ما تسمى ب«شرعية الطوارئ» على ما تردد من فوق منصة مجلس النواب.
التعبير بنصه يناقض أي مفهوم حديث، يوافق الإرادة العامة ويحترمه العالم، فلا شرعية تتأسس على العضلات وحدها.
بالتعريف، فإن «الطوارئ» إجراءات استثنائية مؤقتة لمواجهة أخطار محدقة تصعب مواجهتها وفق القوانين العادية. مهمة الدساتير في مثل تلك الأوضاع الاضطرارية، أن تنظم وتضبط ما هو طارئ ومؤقت على قواعد وأصول تمنع تغولها على حقوق المواطنين.
إذا لم يكن هناك أساس دستوري فإن «الطوارئ» تفقد شرعيتها.
فرض «الطوارئ» ليس خروجاً عن مقتضيات الشرعية إذا ما توافرت الأسباب التي تدعو لإعلانها، لكنها لا تؤسس لأية شرعية، إذا خرجت عن الدستور وضربت في جذره.
لقد فرضت فرنسا «الطوارئ» بعد تفجيرات روعت شوارعها ومواطنيها، وكان ذلك عملاً مؤقتاً ومنضبطاً على الإجراءات الدستورية. لم نسمع رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية، ولا كان يجرؤ، ويقول إن هناك شرعية جديدة تعلو الدستور هي «شرعية الطوارئ».
مثل هذا الكلام رسالة سلبية للعالم بأن الأمور أفلتت في مصر، وهذا غير صحيح بالمطلق.
لذلك تأثيراته المدمرة على فرص التعافي الاقتصادي، فبيئة الاستثمار تتطلب العودة بأسرع وقت للأحوال الطبيعية لا المباهاة بشرعية متخيلة تنسب نفسها إلى فعل اضطراري. كما أن هذا الكلام، الذي تردد صداه على شاشات فضائيات، يفضي إلى خفض منسوب التضامن الدولي مع آلام المصريين في أسبوع الآلام، الذي تبدى قوياً بوقع الصدمة ومشاهد الدماء المتناثرة في اثنتين من الكنائس المصرية الكبيرة.
للصور أثرها في مشاعر التضامن، غير أنها قد تبهت سريعاً بتصريحات متفلتة، وتصرفات لا تليق بالمصاب الجلل، كألّا يقوم المجلس النيابي بواجبه في الإحاطة بحيثيات «الطوارئ»، لماذا كانت ضرورية؟.. أين أوجه القصور؟ وكيف يمكن تداركها؟ ثم ما خطة الحكومة للعودة إلى الأوضاع الطبيعية في أسرع وقت؟
لم يحدث شيء من ذلك في الجلسة العامة التي أقرت «الطوارئ» من دون أي نقاش جدي يحاول الإلمام بالصورة العامة.
«الطوارئ» ليست حلاً وإن توافرت أسبابها، لكنها قد تساعد على تخفيض كلفة الدم، وقدر المعاناة. لا أحد يبتهج ب«الطوارئ» إلّا إذا كان صدره ضاق بأية أوضاع شبه طبيعية.
والأمن وحده ليس حلاً، وحاجته ماسة إلى غطاء شعبي وأخلاقي يمارس تحته مهامه الصعبة، وهو ما لا يوفره غير «الشرعية الدستورية».
في بلد كمصر عانى لعقود طويلة من حكم «الطوارئ» يستحيل نسب أية شرعية للاستثناء بدون ضوابط دستورية يجري احترامها. شرعية ما هو استثنائي تستند إلى اعتبارين، الأول من طبيعته الاضطرارية واقتناع عموم المواطنين بأنه لا سبيل عاجلاً غيره لدرء المخاطر الماثلة.. والثاني من استناده إلى قواعد دستورية تضبط إجراءاته وحدوده.
الاستخفاف بالدستور طعن في شرعية إعلان «الطوارئ». هذه حقيقة لا يصح إغفالها بالحماس الزائد، أو الكراهية المقيمة لثورة «يناير»، جذر الشرعية في هذا البلد.
يكاد يكون الإنجاز الوحيد ل«يناير يونيو» هو الدستور، والتحرش به يعني بالضبط الضرب في جذر الشرعية، وأي أمل في تغيير البيئة العامة. باليقين فإن ذلك يصب في طاحونة الإرهاب.
للأمن مهامه في تعقب الخلايا المختفية، وإسكات مصادر النيران، التي قد تداهمنا عملياتها في أية لحظة، وللسياسة أدوارها في الحفاظ على التماسك الوطني الضروري في مثل هذا النوع من الحروب.
بقدر تراجع السياسة تزداد صعوبة مهام الأمن. هذه حقيقة أخرى لا سبيل إلى إنكارها. في غياب التفكير السياسي تبدت شروخ الصورة العامة، كالإفراط في حوارات إعلامية مع أسر المشتبه بهم في الضلوع بعمليات إرهابية. من حيث المبدأ العام لا يحق لأحد إصدار أحكام بالإعدام الأدبي على أقارب أي مشتبه به.
غير أن هناك من ارتفع صوته داعياً للتنكيل بهم من دون مراعاة لأية قيمة أو قانون، حتى قانون «الطوارئ»!
كانت تلك نزعة معلنة وجدت من يحرض عليها.
في نفس اللحظة تبدت نزعة مناقضة تحبذ الحوارات الإعلامية مع ذوي المشتبه بهم سعياً، على الأغلب، لإدانةٍ ما، لكن لأسباب إنسانية مفهومة لم تحدث، وتبدت ردات فعل سلبية على الطريقة التي جرت بها الحوارات داخل أسر الشهداء والضحايا من ضباط شرطة أو أقباط في الحدثين الانتحاريين المروعين.
أياً كانت زوايا النظر فإنه لا يمكن إنكار عشوائية الأداء العام في أهم واجباته، أن يكون المجتمع حاضراً ومقتنعاً وواثقاً من فاعلية الإجراءات الاستثنائية في مواجهة الإرهاب، وأنها مؤقتة لوقت محدد، وكانت قمة العشوائية «نظرية شرعية الطوارئ»، فلا شرعية لها قوة النفاذ السياسي والأخلاقي سوى الشرعية الدستورية.
51 3 دقائق