تقف إيران منذ مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة، أمام خيارين في غاية الصعوبة، يتعلقان بالإمكانات المتاحة أمامها من أجل صياغة مواقف سياسية يمكنها أن تتلاءم مع الأوراق التي تمتلكها على المستوى الداخلي، وتكون من ثمة قابلة للتوظيف والاستثمار على المستويين الإقليمي والدولي. وتشير مجمل المؤشرات الراهنة المتعلقة بالسياسة الخارجية الإيرانية، إلى أن طهران استنفدت في حقيقة الأمر كل قدراتها على التصعيد إقليمياً ودولياً، ومثل اتفاقها النووي مع المجموعة الدولية، أقصى ما يمكن أن تصل إليه «عبقريتها» الدبلوماسية؛ ولم يتبق لديها من خيارات واقعية سوى اعتماد مزيد من الخطوات التي من شأنها المساهمة في انفراج الأوضاع وتحقيق مزيد من التهدئة السياسية. وبالتالي فإن الخطوات الأخيرة المتخذة من قبل السلطات الإيرانية، والمتعلقة بفرض عقوبات اقتصادية على مجموعة من الشركات الأمريكية، لا تتجاوز في نظر المراقبين، نطاق الخطاب الإعلامي الموجّه للرأي العام الداخلي.
ومن السهولة بمكان أن نلاحظ على المستوى الإقليمي، أن هناك بوادر ومؤشرات انفراج ملموسة شرعت طهران في إطلاقها نحو دول الجوار؛ مؤشرات عمل على البناء عليها مؤخراً أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، في الخطاب الذي ألقاه في القمة العربية الأخيرة، عندما دعا إلى استمرار الحوار بين إيران ودول المنطقة، مع التأكيد في السياق نفسه على أن العلاقات مع إيران يجب أن تستند إلى احترام سيادة الدول، والامتناع عن التدخل في شؤونها الداخلية، واحترام متطلبات حسن الجوار.
وقد جاءت الدعوة الكويتية منسجمة من حيث مضامينها العامة مع الموقف الإماراتي، الذي سبق له أن دعا إيران إلى الامتناع عن تسليح وتمويل المجموعات المتطرفة، وطالبها باحترام سيادة الدول ؛ ومتساوقة في اللحظة نفسها مع الموقف السعودي الذي عبّر عنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي طالب طهران بالتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وعن دعمها للميليشيات والأحزاب المسلحة. ومن الواضح في كل الأحوال، أن المواقف الخليجية تسعى في مجملها إلى استثمار مؤشرات التهدئة التي تطلقها إيران، وتعمل على البناء عليها من أجل تحقيق انفراج حقيقي وملموس على مستوى المنطقة العربية برمتها.
ويرى الكثير من المتابعين للشؤون العربية، أن خيار طهران المتعلق بالتهدئة انعكس بشكل إيجابي أيضاً، على الأوضاع الداخلية في لبنان، حيث بدأت الجبهة اللبنانية تشهد الكثير من الهدوء، وتزايداً ملحوظاً في فرص التوافق السياسي بين الأطراف المتصارعة على مستوى المشهد السياسي اللبناني؛ وبالتالي فإنه ولولا المصاعب الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن تداعيات الأزمة السورية ومشكلة اللاجئين، لكانت الأوضاع في لبنان أفضل بكثير، بخاصة بعد أن توصلت الكتل السياسية إلى انتخاب رئيس الجمهورية، وتشكيل الحكومة بقيادة سعد الحريري. ونستطيع أن نزعم في هذا السياق أن خيار التهدئة الذي باتت تتبناه طهران يبدو حتى الآن ساري المفعول على مستوى الجبهة الفلسطينية. لأن انشغال طهران بالملف السوري، وما يفرضه هذا الملف البالغ التعقيد، من تحالفات مع الجانب الروسي، ومن حسابات دقيقة مع القوى الإقليمية، وفي مقدمها تركيا، يجعلها تحرص على عدم فتح جبهات جديدة من شأنها أن تفسد الرهانات الكبرى المتعلقة بالجبهة السورية؛ بالرغم من أن طهران ما زالت تحرص على إطلاق بلاغة معادية لـ«إسرائيل»، تتجاوز في حجمها كل البلاغة التي تنتجها الدول العربية مجتمعة، بما فيها سوريا.
ويمكن القول إن مراهنة طهران على علاقاتها الاستراتيجية الكبرى مع موسكو، وحرصها على تبليغ رسائل التهدئة إلى تركيا، ودول الجوار الإقليمي، تستمد مشروعيته السياسية من حرص القيادة الإيرانية على الحصول، في المرحلة الراهنة على الأقل، على حياد الدول الفاعلة في المنطقة، في صراعها المفتوح مع الإدارة الأمريكية الجديدة؛ التي تضع مسألة محاربة النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، في مقدمة أولوياتها الجيوسياسية. وبالتالي فإن الرئيس الإيراني حاول أن يحصل خلال زيارته الأخيرة إلى روسيا، على تطمينات تتعلق بعدم التضحية بها في أي صفقة تفاهم محتملة يمكن إبرامها مستقبلاً بين واشنطن وموسكو.
ونستطيع أن نخلص عطفاً على ما تقدم، أن الولايات المتحدة باتت تشعر أكثر من أي وقت مضى، بأنها تتحمل مسؤولية كبيرة في ما حدث من كسر للتوازنات الهشة التي كانت سائدة في المنطقة نتيجة احتلالها للعراق سنة 2003، وترى أنه بإمكانها توظيف بعض أوراقها المتبقية من أجل استعادة شيء من «التوازن» في المنطقة على حساب إيران. وبالرغم من أن هذه الخطوة الأمريكية الجديدة تحمل الكثير من الوجاهة، إلا أن خطورتها تكمن في أن إدارة ترامب تسعى إلى تحقيقها من خلال محاولة إقحام «تل أبيب» في تفاصيل وحسابات المشهد العربي الملتهب. أما بالنسبة لخيار طهران الاضطراري المتجه نحو التهدئة مع دول المنطقة، فإنه يأتي متأخراً في نظر الكثيرين، وهو فضلاً عن ذلك بحاجة ماسة إلى ضمانات حقيقية تثبت أنه ليس مجرد تحرك تكتيكي عابر، لاسيما وأن إيران مازالت تحتل الجزر الإماراتية الثلاث، وترفض كل صيغ التسوية الممكنة التي تقدمت بها الإمارات في مناسبات عدة.