أحداث كثيرة شهدتها المنطقة والساحة الفلسطينية، ذات علاقة مباشرة بمسيرة التسوية، التي مر عليها حتى الآن ما يزيد على الأربعة عقود، منذ اختارت منظمة التحرير الفلسطينية، حل الدولتين، بدلاً من تحرير فلسطين، والتسوية السياسية، بديلاً من الكفاح المسلح.
ليس الهدف من هذا الحديث، تبني أحكام سياسية تجاه هذا الفريق أو ذاك، بل تسليط الضوء على ما يجري من تغيرات سياسية، بالضفة الغربية وقطاع غزة، وما حولهما بالبلدان العربية، حيث تتواجد المخيمات الفلسطينية، والهدف بالتأكيد ليس تصليب الموقف الفلسطيني، تجاه النهج التوسعي الاستيطاني الصهيوني، بل المضي قدماً في خيار الإجهاز على القضية الفلسطينية.
لن نتحدث طويلاً عن السلطة الفلسطينية، فقد حددت خيارها في التسوية بشكل حاسم، منذ نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، من غير أن تتمكن من تحقيق صبواتها في إقامة دولة فلسطينية مستقلة بالضفة والقطاع، بل سنركز على حركة المقاومة الإسلامية، حماس، التي تعتبر مبرر وجودها، هو التصدي لمسيرة التسوية، وتتمسك، وفقاً لمقولاتها، بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
نلحظ في هذا السياق، ثمة تبدلات، لا يمكن أن يخطئها المتابع للشأن الفلسطيني. بدأت هذه التغيرات، منذ انفردت حماس بقيادة السلطة في قطاع غزة، وعملت على فصلها عن الضفة الغربية. أشيع حينها عن اتصالات سرية بين قيادة حماس، ومسؤولين من الكيان الصهيوني، وبقيت المعلومة في خانة الإشاعة لفترة ليست بالقصيرة، حتى أفصح رئيس المكتب السياسي للحركة، خالد مشعل عن أن حماس لا تمانع في إجراء اتصالات مباشرة مع «إسرائيل»، إذا كان ذلك يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني.
واعتبر كثيرون، تلك التصريحات جزءاً من تكتيكات حماس، وأن هدفها في تحرير كامل التراب الفلسطيني، من خلال الكفاح المسلح، لم يتغير.
وفي بداية ما عرف ب«الربيع العربي»، انتشت الحركة كثيراً، بالمكتسبات التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين، في تونس ومصر واليمن، وأملت كثيراً أن تنضم سوريا إلى قائمة البلدان التي ستحكم من قبل الجماعة.
وفي ظل التحولات التي تجري في المنطقة لصالح جماعة الإخوان المسلمين، لم يكن الحديث ممكناً عن مصالحة فلسطينية، تؤدي إلى وحدة الضفة والقطاع. تصورت حماس، كما تصور غيرها من أقطاب الجماعة، أن حقبة جديدة في التاريخ العربي قد بدأت بقيادة الإخوان، وأن هذه الحقبة ستعمر طويلاً. ولم يدر بحسبانهم، أن فترتهم هي سحابة صيف، وأن شعب مصر، سينتفض ضد حكمهم.
خلال مدة الإخوان القصيرة، في الحكم، تكشف سلوكهم عن براغماتية مفرطة، انتهت بالرئيس الإخواني مرسي، لمخاطبة شمعون بيريز ب«الصديق العزيز». وحين شن الكيان الغاصب، هجومه الكبير، على قطاع غزة، أوكل للرئيس مرسي من قبل الصهاينة، التوسط بين المتحاربين، وانتهت الوساطة إلى توقيع هدنة بين حماس و«إسرائيل»، بكفالة إخوانية، وخلالها مارست حماس، دور الدولة في قطاع غزة، مع ما يستتبع ذلك من إقصاء وتهميش لقوى المقاومة الأخرى.
الآن تجري مفاوضات تهدئة، من أجل تحقيق هدنة بين الكيان الغاصب وقطاع غزة، يقودها وسيط إخواني آخر، هو أردوغان، الذي اختار أن يكون وارث مرسي، في كفالة حماس، لدى الكيان الصهيوني.
من جانبها، أرسلت حماس للكيان الغاصب عدة رسائل، تؤكد عزمها على مغادرة خيار المقاومة. ومن بين ما تكشف من هذه الرسائل، تغيير اسم مدرسة ثانوية بقطاع غزة، من مدرسة الشهيد غسان كنفاني، إلى مدرسة مرمرة. وللعلم فإن الشهيد غسان هو من طلائع المقاومة الفلسطينية، التي أثرتها فكراً وأدباً وعطاء، وكان من مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لم تطق أجهزة الموساد نشاطه، فأقدمت على اغتياله، مع ابنة شقيقته، في سيارته ببيروت، في يوليو/تموز عام 1972.
الرسالة الأخرى، أنها بتفاوضها مع الكيان الصهيوني، تصرفت كحكومة مستقلة عن السلطة الفلسطينية، مؤكدة بهذا السلوك، عدم نيتها التوجه نحو المصالحة مع السلطة. يحدث ذلك رغم التحول في السياسات، تجاه قضية الصراع مع الصهاينة، بما يجعل الفريقين بالضفة والقطاع، في مركب واحد.
الرسالة الثالثة، هي دور حماس في أحداث مخيمي اليرموك وعين الحلوة. لقد كان فلسطينيو المخيمات هم العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية، التي انطلقت في نهاية الخمسينات من القرن المنصرم، وقد ظلوا كذلك إلى أن حدثت التحولات في استراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية.
إن طرد الفلسطينيين من المخيمات يحقق هدفين رئيسيين للكيان الصهيوني: الأول هو منع قيام حركة مقاومة جديدة تنطلق من الشتات، والثاني هو إلغاء حق العودة. وللأسف فإن سلوك حماس في المخيمين، يسهم في تحقيق هذين الهدفين، ويتماشى مع الرسائل الجديدة، التي توجهها حماس للكيان الصهيوني.
من جانب آخر، فإن السلطة الفلسطينية، تمر بمرحلة صعبة، تفرض عليها تبني خيارات جديدة، بعد فشل جل محاولاتها للوصول إلى تسوية سياسية مع العدو. وقد جاءت التحولات في أداء حماس، وسط أزمة حقيقية تعانيها السلطة، برزت بوضوح بعد تقديم الرئيس أبو مازن استقالته، ومعه تسعة قياديين آخرين. ويتوقع أن يكون موضوع الاستقالة، بنداً رئيسياً، إن لم يكن الوحيد في الاجتماع المزمع إقامته قريباً للمجلس الوطني الفلسطيني.
كل هذه التغيرات، تعطي وجاهة للسؤال الذي حمل عنوان هذا الحديث: هل نحن أمام هدنة أم تأهيل للحاق حماس بقطار التسوية؟. سؤال ستتكفل الأيام المقبلة بالإجابة عنه، وليس علينا سوى الانتظار.
نقلا عن صحيفة الخليج الإماراتية