اخترنا لكدوشة فنية

الاسطورتان  «حليم » و« أحمد زكى »

«حليم » و« أحمد زكى »…وجهان لعملة  واحدة  هى العبقرية  ..وأذا كان حليم قد تلفح بها وأصبحت ردائه الابدى فى عالم الغناء وسر خلطته الخاصة الى لايعرف أحد تفاصيلها ؛ولكن “أحمد ذكى كان بين جنونه وعبقريته  خطوة لم يخطها  أحمد زكى وظل محافظا عليها .لا أعرف هل هذا كان بأرادته أم أن الاقدار حافظت له على تلك المسافة…كلاهما كان قاب قوسين أو أدنى من السعادة ، ولكن ثمة شيئا ما منعهما  من الوصول اليها …بركان من الابداع. وفيض من الانسانية …واعصار من الغضب فى لحظات الابداع  أظهره “حليم “فى أخر حفلاته عندما تواجد جمهور لم يأت ليستمع ؛وكان يظهره كثيرا «أحمد زكى »عندما لايجد تفسيرا مقنعا لكونه لم يكن المتوج على عرش السينما فى اى مهرجان يدخل فيه بأحد أفلامه …وأذا كان الاثنين صادقين فى فنهما ؛ولكن حليم كان الصدق المتعطر بالاحساس بقيمته الفنية “أما “أحمد” فصدقه يصل  الى حد  البوهمية …كلاهما معطاء بالقدر الذى جعلهما من أنسان كسب الملايين الى شخص يخرج من الحياة بالستر «وزيادة حبتين».

كلاهما يجيد فن التعامل  فالاثنين لديهما أصدقاء كثيرين ،كل واحد فيهم يعتقد أنه الصديق الاوحد ؛وتلك مقدرة انسانية لم يكنا يعزفا عليها بأقتدار وعفوية فقط ولكن بعبقرية أيضا ….أفعالهما يغلفها أطارا واحدا هو الايثار فى كل شئ ألا فى الابداع  ..فهذا الانسان الذى يعطيك كل مايملكه بدون تفكير ،يتحول فى لحظة الى أعصار يعتصر ذاته وكيانه قبل الاخرين أذا فشل فى الحصول على ما يحلم به فى فنه ؛لذلك لم يكن غريبا على حليم تلك الثورة العارمة ؛التى كادت أن تنهى مستقبله الفنى  عندما خرج ليغنى بعد «أم كلثوم»  فى حفلة  أضواء المدينة ؛و كان البرنامج أن يغني عبدالحليم بعد وصلة السيدة أم كلثوم، إلا أنها أطالت في وصلتها إلى وقت متأخر من الليل فبدأ عبدالحليم يفقد أعصابه في الكواليس نتيجة تأخر ميعاد صعوده على المسرح و شعر بأن هناك اتفاقًا ضمنيا بين عبدالوهاب وأم كلثوم على تأجيل ظهوره على المسرح فخرج على المسرح وهو في حالة غليان فقال جملته المشهورة: (إن أم كلثوم وعبدالوهاب أصرا أن أغنى في هذا الموعد، وماعرفش إذا كان ده شرف لي وألا مقلب)…

وعلى الجانب وعلى ماأعتقد أن الكثير من أعمال وحيد حامد كان من المفروض أن يقوم ببطولتها أحمد زكى ولكنها كانت فى النهاية تطير لتحط بجناحيها على أحدا غيره ؛وربما يرجع هذا الى أن أحمد ذكى كان عنيدا فى وجهة نظره الى الحد الذى لايقبله وحيد حامد  ،فالازمة دائما تكون بين مبدعين كليهما يعرف مقدار ذاته ويرفض التنازل عن مايفكر فيه ..وعامة أن كنت شاهد على ضياع حلمه فى تمثيل فيلم «سوق المتعة » الذى ذهب الى محمود عبد العزيز .فقد كان أحمد ذكى يذهب يوميا الى المكان الذى أعتاد أن يكتب فيه وحيد حامد وظل مرابطا أمامه فى الايام الاخيرة من كتابته ..وأعتقد أن تلك المشاهد أخذت وقت طويل من المبدع وحيد حامد لأصرار أحمد على التواجد أثناء الكتابة .وبعد الانتهاء من السيناريو وكالمعتاد طار الفيلم منه ..وحتى الان لم أعرف لماذا!….

كليهما كريم .. ولكن «حليم» كان كرمه به قدر كبير من ايثار الاخرين وتأكيد على أن لديه مفهومه الخاص فى الكرم ؛فالجميع يعلم أنه كان يعشق أقامة الولائم للاصدقاء رغم أنه محروم من  الكثيرمن أنواع الطعام .وكل سفرياته للعلاج كان يعقبها عودة بشنط محملة بالهدايا ؛وكان أجمل مافيها أنه يختار أحدث الاجهزة التى تساعد أصدقائه فى حياتهم العملية ؛فالمصور فاروق أبراهيم كان يحصل  دائما على أحدث أنواع الكاميرات .أما كرم أحمد ذكى فليس له حدود ؛دائما عازم..لم اراه معزوما  الا فى حالات أستثنائية …فى كل المهرجانات السينمائية التى كان يحل عليها ضيفا  يصر أن يكون مقيما على حسابه الخاص .ومن الايام التى لاأنساها أثناء تواجده فى مهرجان الاسكندرية  وكالمعتاد كانت أقامته على حسابه ..فى الوقت الذى كنت ترى فنانين يأتون بأسرهم كاملة على حساب المهرجان !,,,وكان الجلوس مع أحمد زكى على طاولته يعنى أنك معزوم ،ومهما بذلت من مجهود لاقناعه أنك معزوم من أدارة المهرجان يصر على دفع حسابك!….الطريف أن أحمد ذكى كان له ذوقه الخاص فى ارتداء الملابس وكان مقتنع أن هذا الذوق سينال أعجاب الجميع ..لهذا الحد لايخرج  الامر عن كونه  ثقة بالنفس، ولكنه كالمعتاد وبلمسته الخاصة يحوله الى شئ غريب وغير معتاد ،لكونه كان يشترى من معظم القمصان التى يرتديها كل المقاسات ،حتى أذا أبد أحدا أعجابه بالقميص صعد الى حجرته بالفندق (الذى كان يقيم به  معظم الوقت) واحضر له مقاسه ..

«كلاهما لبسه عفريت»فمع كل أغنية يغنيها حليم تتبدل أحواله  ؛يعيش مع كل حرف بها ؛حتى أنه تكلف مبالغ طائلةلاجراء مكالمات مع «نزار قبانى» لتغيير بعض كلمات قارئة الفنجان ،وعندما قرر تقديم مسلسله الاذاعى “أرجوك لاتفهمنى بسرعة ” قام بحبس محمود عوض فى شاليه بالاسكندرية لينتهى من كتابة المسلسل.أما أحمد فسخصيته تتبدل 180 درجة ليصبح فى حال غير الحال ؛ملابسه رثة تدعوك للشفقة  عليه مع كل الشخصيات الى قدم فيها شخصية الانسان المطحون ؛ فعندما سافرت له أثناء تصوير الراعى والنساء ،كان مرتديا طول الوقت قميص وبنطلون بسيط للغايه مثل الشخصية التى يؤديها ،ورغم أنه كان يستيقظ مبكرا جدا والتصوير لايبدأ الابعد الرابعة ظهرا و ينتهى مع السا عات الاولى من الصباح ….ولاأعرف  حتى الان  متى كان ينام أحمد زكى!…..وكان  البرنس الذى لايترك السيجار من يده عندما يكون من أصحاب المعالى ؛وعندما قام بدور عبد الناصر ظل لفترات طويل يسير بأنحناءة  قليلة لكون ناصر كان كثيرا مايظهر منحنيا قليلا عندما يكلم الاخرين لطول قامته …ولشدة تقمصه للدور  أعتقدت أنه من المستحيل أن يتقمص دور السادات بنفس البراعة ولكم كان مهذهلا وصادما عندما تراه فى بهو الفندق الذى يقيم فيه فى غير أوقات التصوير مرتديا الجلباب والعباية وممسك بالبايب كما يفعل السادات …وظل لفترة طويله يحلق الجزء الامامى من رأسه حتى ظن الكثيرين أنه أصيب بالصلع …..وربما أن الاقدار لم تبخل عليه بالالم الذى كان يعانيه عبد الحليم حافظ ليتقمص بصدق لحظات المعاناة التى عاشها العندليب ليكون كما كان دائما حقيقيا وهو يمثل فى أخر أعماله «حليم »..

حكايات كثيرة دارت عن علاقة كليهما بالاهل والاصدقاء  .حليم كان أهله جزء من حياته يتنقل بهم من مكان الى أخر وبيته كان مقسوم الى نصفين جزء يخص حياته الصاخبة ؛والجزء الاخر تقيم فيه عائلته ويسميه «الحلوات » .أما أحمد زكى فأصدقائه فى بدايته ظلوا هم أنفسهم  وهو فى عز نجوميته ومجده ،وأذكر منهم الراحل ممدوح موافى الذى أصر بعد أجراء جراحة فى القلب أن يسافر مع أحمد ذكى الى باريس عندما مرضه ،وهناك سقط مغشيا عليه ليكتشفوا انه مصابا” بالسرطان فى المرحلة الاخيرة وعاد معه الى مصر ليموت قبل أحمد بشهور ؛ليسبق أحمد الى مقبرته ليرافقه فى حياته ومماته .

حكايات كثيرة قيلت عن غراميات حليم وأحمد ذكى فى حياتهما ,واخرى أبتدعت بعدوفاتهما.ولكن الحقيقة تكمن فى هذين المكانين  الاول فى البساتين ؛والثانى بالقرب من الفيوم حيث يسكن الاثنين الأن ..فالحياة الخاصة صندوق أسود يرحل مع صاحبه ..و كل واحد فيهما له قصة خالدة  لعب فيها الموت كلمته الاولى والاخيرة فحبيبة حليم «ديدى» تزوجت غيره وماتت بمرض عضال ؛أما حب أحمد ذكى الوحيد المعترف به فى حياته هى الراحلة «هالة فؤاد » والذى أثمرت قصة حبهما  هيثم أحمد ذكى ..وكل من كان يعرفه عن قرب ،يعلم  كم كان يكابد ويعانى أثناء مرضها ..ولكنه كان دائما يحافظ على المساحة التى لايجب الاقتراب منه لكونه زوجة  لرجل أخر …لم يتكلم أحمد كثيرا عن أسباب الفراق وأحتفظ  بها لتصبح زاده الخاص الذى يتزود به من الذكريات .

ورغم أن علاقة الانسان بربه لايعلمها ألا الله ألا أن مؤخرا أعلن الشيخ “على جمعة” أن حليم كان متدينا ؛ وما لايعرفه الكثيرين أن أحمد أدى فريضة الحاج قبل وفاته بأكثر من عشر أعوام ..علاقة أحمد بالله مثل كل البشر لايعلمها الا الله  ,ولكنه كان سعيدا بعد عودته من الحج ويحكى حكاياته عن تجربته الانسانية هناك بعفوية بعيدة عن الكلمات الجوفاء والرنانة ..

وفى النهاية جمعهما الرحيل …ولكنه رحيل لايعرف الاختفاء والابتعاد ولكن السكن فى أماكن خلود المبدعين الموجودة فى داخل كل أنسان ؛لذلك فلكل واحد فينا عرف قيمة أبداعهما ؛ميعاد معهما وقتما شاء

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى