باقتراب حسم الحرب على « داعش » قد تستبدل الكوابيس المقيمة بكوابيس جديدة، والأوطان المنتهكة بأوطان مقسمة.
تختلف درجة الخطر من دولة عربية إلى أخرى، لكن المصير مشترك في نهاية المطاف.
لعقود طويلة سادت أدبيات الجامعة العربية تعبيرات العمل العربي المشترك، دون أن تبلور نفسها- بأغلب الأحوال- في أي خطط على شيء من الجدية.
إذا ما تقوضت اللعبة كلها- كما هو مرجح في معظم السيناريوهات المتداولة- فإن وحدة المصير سوف تؤكد نفسها على أطلال نظام عربي أخفق أمام تحدياته.
من فرط الإخفاق الطويل تكاد أي آمال أن تقارب الأوهام في لحظة مواجهة الحقائق الأخيرة، التي تتحرك على الأرض بتحدياتها ونيرانها.
التحدي الرئيسي الأول أمام القمة العربية المرتقبة ، الصورة التي قد يستقر عليها المشرق العربي في العراق وسوريا بعد إزاحة ما تسمى «الدولة الإسلامية».
لم ينشأ التنظيم المتشدد من فراغ، فهو ابن أوضاع وسياسات لحقت احتلال العراق عام (٢٠٠٣)، فككت بنية دولته، وأنهكت مجتمعه في صراعات مذهبية وعرقية.
كان ذلك مقصوداً حتى لا تقوم للعراق قومة مرة أخرى. بصورة أو أخرى، فإن الذين عملوا على تفكيك ثاني أكبر دولة عربية دفعوا ثمناً باهظاً والذين موّلوا وسلّحوا جماعات العنف والإرهاب اكتووا بنارها.
بدت حماقة كاملة أن يصرح الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، قبل ساعات من العمل الإرهابي الذي استهدف البرلمان البريطاني، بأن السياسات الأوروبية تجاه بلاده سوف تؤدي إلى عدم تمكن مواطنيها من المشي في الشوارع، كأنه يحمّل نفسه مسؤولية الإرهاب العالمي، أو يلّوح بأن صلاته مع «داعش» لم تنقطع تماماً.
هكذا أدخل نفسه في أزمة عميقة مع الاتحاد الأوروبي، ووضع نفسه مجدداً في دائرة الضالعين بدعم الإرهاب. تفلُّت «أردوغان» بالحماقة إحدى صياغات التوتر العام الذي يخيم على الإقليم كله، انتظاراً لما بعد «داعش»، من ترتيبات وخرائط، من بينها إنشاء دولة كردية على الحدود السورية، وهو ما يضرب بالعمق في مستقبل تركيا كدولة موحدة.
بعض التوتر طبيعي، وبعضه الآخر مكتوم، أو مذعور، أو أحمق.
باليقين هزيمة «داعش» على الأرض ليست كلمة النهاية في الحرب على الإرهاب.
إزاحة «مشروع الدولة» بقوة السلاح شيء، وبناء أوضاع جديدة تنفي الأسباب التي أفضت إلى «داعش» شيء آخر تماماً. الإزاحة توشك أن تستكمل معاركها في غضون عام (٢٠١٧).. هذه مسألة شبه محسومة.
لكن ماذا بعدها؟
بأي نظرة على الخرائط السياسية والعسكرية فإن سيناريوهات الاضطراب في العراق مرجحة، واحتمالات التقسيم في سوريا غير مستبعدة.
إذا ما تفاقمت الاضطرابات ونشأت دويلات جديدة فإنها مشروعات احترابات مذهبية وعرقية بلا نهاية معروفة، تفسح المجال لإعادة إنتاج «داعش» ونظيراتها بصورة أكثر شراسة في العالم العربي المتداعي، واتساع العمليات الإرهابية داخل العواصم الأوروبية.
حسم معركة الموصل نقطة تحول مهمة في الحرب مع «داعش»، لكنها ليست نهاية الحرب. ما يتلوها من ترتيبات قد تؤجج أسباب الإرهاب ونزعاته وتدفع به إلى أطوار جديدة.
استهداف البرلمان البريطاني إشارة لاتساع محتمل في العمليات الإرهابية بقلب أوروبا، بكل عواقبه الوخيمة على الجاليات العربية والإسلامية وصورة الإسلام نفسه.
ظاهرة «الذئاب المنفردة» قد تأخذ مدى أكبر وأخطر مما هو جارٍ حاليًا. اليأس أحد محركات الإرهاب، وعندما يستخف بأي حق فإن أحداً لا يستطيع أن يوقف انفجارات العنف.
رغم الكلام العربي الكثير عن استراتيجيات مكافحة الإرهاب وتجديد الخطاب الديني وسد الثغرات الاجتماعية التي تسمح بتمركزه وتمدده، فإنه لا توجد أي رؤية تعرف أين مواضع أقدامها، وما الخطوات التالية لدحر «داعش»، وما يترتب فعله الآن وليس غداً؟
الانقسام هو العنوان العربي الرئيسي على الأزمات السورية والعراقية، والحسابات الضيقة لها الصدارة.
في ظل تلك الأوضاع فإن العالم العربي ينتظر ما قد تجرى به سياسات ومصالح اللاعبين الدوليين والإقليميين الآخرين، بلا قدرة على صد خطر، أو منع كارثة.
التحدي الرئيسي الثاني، الذي يطرح نفسه بتوقيته وسياقه على القمة العربية، عنوانه مستقبل القضية الفلسطينية. بالنظر الاعتيادي فهو عنوان دائم على اجتماعات القمة، تكتب بشأنه صياغات معتادة، تنسى اليوم التالي، حتى يعاد كتابتها مرة أخرى في مناسبات مماثلة. وبالنظر الماثل فهو قضية حياة أو موت.
إذا كان هناك من يتصور أنه يمكن إنكار «العامل «الإسرائيلي»» في مجريات معارك المصير في المشرق العربي، وفي مناطق مشتعلة أخرى، أو أنها بصدد اقتناص الفرصة التاريخية السانحة لإنهاء القضية الفلسطينية؛ فهو واهم.
أسوأ ما يحدث الآن الهرولة المتزايدة، وبعضها معلن، إلى استرضاء «إسرائيل»، بظن أن ذلك مما يحفظ النظم، بينما تضفي عليها أسباب القوة والإملاء وحصد الجوائز دون استحقاق.
الهرولة بذاتها تشجع على ضياع ما تبقى من حقوق، وتفتح المجال للتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وتهويد القدس، وإعادة طرح سيناريوهات «الوطن البديل» في الأردن، أو سيناء، أو ربما العراق إذا ما جرى تقسيمه، فضلاً على ضم الجولان السورية.
بكلام آخر مستقبل القضية الفلسطينية أصبح في عهدة الخرائط المنتظرة والقوى التي ترسمها وفق مصالحها وحساباتها.
إذا ما جرت تقسيمات على خرائط وأنهيت القضية الفلسطينية، فإن أي مفهوم للأمن القومي يكون قد انتهى، وينهار معه النظام العربي الحالي ممثلاً في الجامعة العربية، وينشأ على أنقاضه نظام إقليمي جديد، العرب هم الطرف الضعيف فيه.
هل يمكن تجنب مثل ذلك السيناريو المروع والماثل؟ هل يمكن منع تقوض دول في الإقليم وتفشي الإرهاب بصورة ربما أكثر شراسة؟ وهل يمكن رد اعتبار العروبة من جديد بحد أدنى من التوافقات الضرورية؟
ثم هل يمكن التطلع بشيء من الأمل إلى بناء دول حديثة حرة وعادلة؟
إذا لم تكن هناك إجابات لها قوة الإلهام فإن لعنة الكوابيس سوف تأخذ مداها.