باستثناء قلة ضئيلة جداً، فإن اللبنانيين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية وتباين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، ينزعون بسهولة إلى الاصطفاف وراء طوائفهم ومذاهبهم وزعاماتها التقليدية ورؤوس بيوت عبادتها، عندما يتعرض أحد رموزها لمساءلة ما، من أي جهة أتت، حتى لو كانت محقة.
فعندما تُساءل رئاسة الجمهورية عن أدائها ومواقفها، وتُسأل عما حققته من وعودها وما نفذته من برنامجها، أو عما يثار من كلام حول «عائليتها»، يشعر الماروني خصوصاً، والمسيحي عموماً، بأنه مستهدف، حتى لو كانت لديه الأسئلة نفسها يوجهها
إلى المقام الأعلى في البلاد.
وعندما توجه أسئلة من النوع ذاته إلى الرئاسة التشريعية، تشمل «احتكار» المنصب و «تعطيل» الحياة البرلمانية وتفصيلها على قياسها، أو «الإثراء المشكوك فيه» للأقارب والمقربين، يعتبر الشيعي أنه مستهدف، ولو كان هو نفسه يشكو من إجحاف يطاول قريته أو منطقته أو فرصته في وظيفة من دون واسطة أو التحاق بزعامة، أو إذا كان لا يشارك «الحركة» و «الحزب» فهمهما دور الطائفة ومستقبلها وعلاقتها بالمكونات الأخرى.
وإذ ينبري البعض إلى انتقاد «تقصير» الرئاسة التنفيذية وطلب الوضوح في شأن مزاعم الفساد والإفساد والمحاباة والاستغلال غير المشروع للموقع والقوانين وسلطة تطبيقها، يشعر السنّة بأنهم مستهدفون، حتى لو كانوا يوجهون إلى الحكومة ورئيسها انتقادات أكثر قسوة وتفصيلاً وصراحة في ما بينهم.
ولا يشذ الدروز والأرثوذوكس والأرمن وأبناء الطوائف الأخرى عن هذه «القاعدة» التي تميز لبنان عن بقية الدول أو أشباه الجمهوريات.
وبالطبع، لا يقف الأمر عند الدفاع الشفوي عن «ممثليهم» الطائفيين، بل إن القسم الأكبر من اللبنانيين مستعد للنزول إلى الشارع لمواجهة «الشارع الآخر» ومطالبه، ومبادلته الاتهامات والتهديدات بمثلها، واللجوء إلى أكثر من التظاهر واللافتات، أي العنف المباشر، وهو ما حصل مراراً.
يعني هذا أنهم يتشاركون جميعاً «العيب الجيني» ذاته، فيشكون من سوء أحوال معيشتهم، وصعوبة تأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وندرة الوظيفة وتدنّي راتبها، والفساد الذي يسرق لقمتهم من أفواههم، وشقاء دهاليز الطبابة، وتحليق أكلاف التعليم، والساعات الطويلة التي يمضونها في إنهاء معاملاتهم، وأيضاً في سياراتهم كلما زخ المطر، إضافةً إلى الفوضى والضجيج اللذين يفتكان بأعصابهم… ثم ينسون كل ذلك بسرعة قياسية، ويتحولون مدافعين عمن ساهموا في وصولهم إلى هذا الوضع، أو من هم مسؤولون مباشرة عنه، إذا كانوا من «الفئة» ذاتها.
وقد يحاول بعضهم الخروج من أسْر «الجماعة»، منادياً ببلد طبيعي، فيكتشف سريعاً أن ما يسعى إليه سرابٌ يزول أمام قسوة القيود الطائفية التي تشد وطنه ومواطنيه إلى الخلف. فاللبناني يتعود من قبل أن يبدأ النطق وفهم معاني الكلمات، أن يسمع في بيئته الصغيرة أنه «مختلف» وأنه «الصح» و «هم الخطأ» وأنه «الحق» و «هم الشر».
وإذا ساق أحدهم للتدهور الحاصل أسباباً تشمل «السلاح غير الشرعي» وانتشاره وتناسله، وتكبيله سلطة الدولة وإرادتها المتخيلة في فرض الأمن والنظام، جوبه بسيلٍ من التهم الجاهزة بـ «العمالة» و «معاداة المقاومة» وحرف «الجماهير» عن هدف «التحرير» الأسمى.
فالطبقة السياسية والدينية الحاكمة تساوم اللبنانيين على «الأمن»، وهو مفهوم نسبي فضفاض، وتقايضهم إياه بأتاوات متنوعة. فإذا رغبوا في أن لا ينخرط بلدهم بكليته في الحروب الإقليمية المحيطة، وبعض مكوناته غارق تماماً فيها، عليهم السكوت عن النهب المنظم لثروات البلد، على ضآلتها. وهذه الطبقة تظهر تضامناً عجيباً بين عائلاتها، كلما شعرت بأنها تواجه تهديداً مشتركاً، على رغم التنافس القائم بينها على المناصب والغنائم.
فهل بقي أمل يُرتجى من التظاهرات والاعتصامات والإضرابات التي تندرج في إطار «فشة الخلق» عند خروجها من «عالمها الافتراضي» من حين إلى آخر. فهذه القلة القليلة الخارجة على الطوائف، يسهل خرقها واستيعابها وتجييرها وتفريقها. ومن لم تفلح معه أساليب التحكم من بُعد، يُستعان عليه بأدوات القمع من قرب، فيُضرب ويُعتقل ويُسجن وتشوه سمعته، إلى أن يقبل بالتدجين أو يتظاهر به، قبل أن يقف في طابور الهجرة. أما من تراودهم أفكار عن حلول «أكثر جذرية»، فإن تجارب «الثورات» المجاورة لا تبشرهم بالخير.