أوروبا تلتقط أنفاسها
التقطت أوروبا أنفاسها «ولو إلى حين!!» بعد ظهور النتائج الأولية للانتخابات النيابية في هولندا. كان الوضع ملتبساً لحد كبير في الأيام الأخيرة قبل الانتخابات. اليمين العنصري بزعامة «ويلدرز» كان يثير القلق باحتمال حصوله على الصدارة.
صحيح أن نظام الانتخابات بالقائمة النسبية هناك لا يعطي لحزب واحد إمكانية تشكيل الحكومة بمفرده، وصحيح أن معظم الأحزاب الهولندية أعلنت أنها لن تشارك حزب «ويلدرز» أو تتحالف معه لتشكيل الحكومة. لكن الخطر كان ماثلا في الرسالة التي سيعطيها فوز مثل هذا اليمين المتعصب «إذا حدث» في الداخل والخارج.
في الداخل.. كان سيضع اليمين العنصري المتعصب في موقع الصدارة في دولة أوروبية مهمة. وسيجعل من رجل يقول إنه سيطارد المسلمين وسيصادر القرآن الكريم من منازلهم، وسيمنع دخولهم باعتبارهم خطرا على أمن واستقرار هولندا.. سيجعل من مثل هذا الرجل في مركز الصدارة السياسية.
وفي الخارج.. كان مثل هذا الفوز يعطي دفعة معنوية هائلة للقوى اليمينية العنصرية في باقي دول أوروبا، التي انتعشت بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبعد فوز ترامب برئاسة أميركا وإعلانه موقفا مناوئا للوحدة الأوروبية!
كانت المعركة الانتخابية في هولندا محط الأنظار- من المراقبين ـ خاصة أن هناك انتخابات قادمة في فرنسا «الشهر القادم»، وفي ألمانيا «في سبتمبر» ستحددان طريق أوروبا لسنوات طويلة.
وكان ما يخيف أوروبا أن المد اليميني يستفيد من ركود اقتصادي ضرب الجميع، ومن تعثر للاتحاد الأوروبي، ومن صعود للاتجاهات القومية التي تضم أيضا قوى غير عنصرية.
بل وقوى من أقصى اليسار ترى أن الانفصال عن أوروبا أفضل لأحوال الطبقات محدودة الدخل والمتوسطة التي عانت من «العولمة» ورأت في الاتحاد الأوروبي جزءا أساسيا من هذا النظام الاقتصادي الذي حكم العالم.
وزاد من التباس الموقف في هولندا قبل الانتخابات، هذه الأزمة الحادة التي نشأت فجأة بين حكومة هولندا وبين حكومة تركيا، بعد منع استقبال وزراء أتراك لمخاطبة جماهير مؤيدة لأردوغان استعدادا للاستفتاء الذي يعد له في الشهر القادم، هذه الأزمة التي كان البعض يخشى أن تصب في مصلحة اليمين العنصري المعادي للإسلام في هولندا.
لكن النتائج جاءت لصالح رئيس الوزراء «مارك روقي» الذي أدار الأزمة، وفاز حزبه بالمرتبة الأولى، بينما تشارك الحزب العنصري «حزب الحرية» في المرتبة الثانية مع حزبين آخرين، وبفارق متسع عن الحزب الأول.
هدأت المخاوف بعض الشيء، والتقطت أوروبا أنفاسها قليلا، وإن انتقل الترقب إلى المحطة الثانية والأهم، وهي انتخابات فرنسا التي تدخل متاهة سياسية قبل أسابيع من إجرائها، بعد أن انفجرت الفضائح في وجه الجميع!.
قبل شهرين كانت المعركة الرئاسية شبه محسومة، كان الرئيس الفرنسي «أولاند» قد أعلن عدم ترشحه، وأصبح حزبه اليساري خارج المنافسة.
وكان اليمين العنصري المتعصب يؤكد وجوده ويصطف وراء «ماري لوبان»، لكنه يعرف أنها لن تصل للرئاسة حتى لو احتلت المقدمة في الجولة الأولى من الانتخابات، لأن الجميع سيصطف ضدها في الجولة الثانية، وكان اليمين المعتدل قد شهد مفاجأة بفوز رئيس الوزراء الأسبق «فيون» بترشيح الحزب الجمهوري على حساب كل المنافسين بمن فيهم الرئيس السابق ساركوزي. ليصبح فيون هو الاسم الأبرز في الطريق إلى قصر الرئاسة.
وفجأة بدأ مسلسل الفضائح يحيط بكل المرشحين البارزين.. بدءاً من فيون الذي استدعي بالفعل قبل أيام للتحقيق معه في فضيحة توظيف زوجته وابنيه في أعمال وهمية واستولوا من خلالها على أموال الدولة!.
أما ماري لوبان فهي تواجه تهمة مشابهة لكن مع البرلمان الأوروبي الذي يطلب التحقيق معها في الاستيلاء على أموال البرلمان للإنفاق على مساعديها في الحزب الفرنسي المتعصب الذي تقوده.
ولم يسلم مرشح الوسط اليساري «ماكرون» الذي صعد بسرعة ليكون المنافس الأول لماري لوبان، وليكونا الاسمين المرشحين لجولة الإعادة على حساب فيون، قبل أن تطارده هو أيضا اتهامات استغلال منصبه الوزاري قبل ذلك والتربح منه، بالإضافة إلى رفضه الإفصاح- حتى الآن- عن ممولي حملته الانتخابية مع اتهامات من خصومه بأنهم يمثلون مصالح مالية كبيرة.. وربما غير قانونية!.
المشهد بائس أخلاقياً، ومرتبك سياسياً. والمخاوف تزداد على النظام السياسي الفرنسي وسط تشرذم اليسار واليمين المعتدل، ومع تصاعد موجات العنصرية وحملات الكراهية ضد الإسلام من اليمين المتطرف، ومعها الدعوات للسير في طريق بريطانيا والخروج من الاتحاد الأوروبي!.
وقد كانت هناك محاولات من جانب اليمين في الحزب الجمهوري لإقناع فيون بالانسحاب والدفع بمرشح آخر هو «جوبيه» الذي كان الاختيار الأساسي للحزب قبل هزيمته في الانتخابات الداخلية، لكن المحاولات فشلت بسبب رفض فيون الانسحاب، واضطر قادة الحزب لإعلان مساندته، وهم يعرفون النتائج الكارثية لاستمراره في المعركة!.
ويبدو أن هناك محاولات من جانب قوى اليسار لإقناع الرئيس الفرنسي أولاند بالتراجع عن قراره بعدم دخول المنافسة الانتخابية لمعرفته بسوء موقفه بعد الأداء غير المرضي لأنصاره، بالذات الذين اتهموه بالانحراف لليمين أثناء فترة رئاسته الأولى.. بالإضافة للنتائج السلبية اقتصاديا.
لكن الموقف يتغير الآن والمحاولات تبذل لإقناعه بدخول المعركة لإنقاذ الموقف، واستغلال نقاط الضعف التي ظهرت عند المنافسين الرئيسيين، والتصدي لخطر الصعود المتتالي للمرشحة لوبان، والرهان على أن الفرنسيين سيفضلون رجلا مثل أولاند رغم كل التحفظات، طلبا للاستقرار وخوفا من الذهاب إلى المجهول مع متنافسين تحيط بهم اتهامات الفساد، واعتمادا على أن أوروبا ستفضل هذا الخيار، وستمد يد العون لإدارة جديدة يقودها أولاند تمنع فرنسا- ومن ورائها أوروبا- من الوقوع في الفوضى.
الكل في أوروبا يترقب والأنظار ستتركز على فرنسا، والمترقب الأكبر سيكون المستشارة الألمانية ميركل التي تنتظر معركة انتخابية قاسية في سبتمبر، وتدرك تأثير ما يجرى في فرنسا على معركتها التي تواجه فيها نفس اليمين المتطرف مع اتهامات إضافية بأنها تحمّل بلادها ما لا تطيق.. سواء بمساعدة باقي الدول الأوروبية في أزمتها، أو بموقفها الإنساني حين استقبلت مليون لاجئ منهم نسبة كبيرة من ضحايا حروب الشرق الأوسط.
لقد التقطت أوروبا أنفاسها بعد نتائج انتخابات هولندا.. لكن الأخطر قادم والمستقبل الأوروبي مرهون بالقوتين الأساسيتين: فرنسا وألمانيا.. حيث اليمين يتنمر ومعه العداء للوحدة الأوروبية والكراهية للإسلام.
فهل تكون انتخابات هولندا إشارة إلى أن أوروبا ستتجاوز الأزمة، وأن الاعتدال سيهزم العنصرية ويقهر الكراهية ويحفظ الاستقرار؟! نتمنى أن تكون الإجابة هي نعم.. لأن العكس يعني أن العالم كله سوف يواجه المجهول.