«أوروبا صوتت ضد الشعبويين والمتطرفين»، «إنهم يمثلون الشعبوية السيئة»، «لقد انهزم المتطرفون الشعبويون بفعل الحس السليم»، «الانجذاب للشعبوية اليمينية انتهى»، «الشعبوية اليمينية يمكن أن يكون لها ثمن من الدمار»، «أوروبا باتت واعية بالتداعيات المدمرة التي يمكن أن تخلفها الشعبوية المتطرفة»، «هذا درس جيد للمتطرفين الشعبويين في فرنسا قبل الانتخابات»!
هذه قراءة سريعة لتعليقات كبار الساسة في هولندا وألمانيا وفرنسا بعد هزيمة اليميني المتطرف خيرت فيلدرز المُلقَّب أوروبيًّا بعدو المسلمين!
والشعبوية بدايةً لمن لا يعرف وكما درسنا وتعلَّمنا وقرأنا في الموسوعات هي:
– فلسفة سياسية، أو نوع من الخطاب السياسي الذي يستخدم الديماغوجية ودغدغة عواطف الجماهير لتحييد القوى العكسية!
– يعتمد الكثيرون على الشعبوية لكسب تأييد الناس والمجتمعات لما يُنفِّذونه أو يُعلنونه من السياسات، وللحفاظ على نسبة جماهيرية معينة تعطيهم مصداقية وشرعية.
– وعكس الشعبوية هو تقديم المعلومات، الأرقام والبيانات بمخاطبة عقل الناخب لا عواطفه.
– ومن أكبر النتائج الكارثية للشعبوية قدرتها على إقناع عدد كبير من الشعب، وغالبًا ما يُشكِّلون الأكثرية للقبول بالسلطة المطلقة للفرد أو لمجموعة من الزعماء.
في ضوء ذلك، تأمَّل معي كيف وصل بنا الحال مع الشعبوية العربية المصادمة لطبيعة العرب وللدين الإسلامي الذي يدين به غالبية العرب!
عقود طويلة ونحن نغط أو نغوص في الشعبوية، دون أن تدري الشعوب التي جُبلت على تصديق ما تُروِّجه الإذاعة، ثم التلفزيون والصحافة، أن الأمر في النهاية سيصل إلى تقسيم الشعوب من الداخل ومن ثم تقسيم الأوطان!
المخجل أن الشعبويين في بلاد العرب هم الأكثر حزنًا على رسوب الشعبويين في أوروبا، وهم أكثر الناس فرحًا بل وطربًا بأي انتصار يُحقِّقه اليمين المتطرف في أوروبا!
المدهش أن الشعبويين العرب ينامون ويصحون وكأن بينهم وبين العروبة والإسلام «ثأر بايت»! ولأن ذلك كذلك، تراهم يُرهقون أنفسهم كثيرًا في اصطياد مقولة أو تصوير مشهد؛ يوحيان بتخلف الأمة كلها أو نحو ذلك! ولأنهم في كثير من الأحيان لا يجدون ما يُشفي غليلهم، يعودون إلى التراث الإسلامي فيُنقِّبون عن حديثٍ غير صحيح، أو روايةٍ كاذبة، فينسخون ويصيحون مطالبين بتنقية البخاري ومسلم، فإذا كانت الأجواء مهيَّئة طالبوا بحذف بعض الآيات والأحاديث!
شيئًا فشيئًا بات لدينا متطرفون مسلمون ضد الإسلام لا يقلّون خطورة عن داعش، وشعبويون عرب ضد العروبة لا يقلون خطورة عن ابن سبأ!
ولأنهم انتشروا وسيطروا أو كادوا في السنوات الأخيرة، فقد أصبح لدينا قنوات شعبوية بامتياز، وصحف ومجلات شعبوية ذات كفاءة عالية، وفن غنائي وإنتاج سينمائي شعبوي بجودةٍ عالية!
شيئًا فشيئًا بات لدينا علماء فضائيون وغير فضائيين غارقين في الشعبوية، ليس في البرامج الفضائية فقط، وإنما على منابر المساجد! ولدينا أيضًا جامعات شعبوية ومعاهد شعبوية ومدارس شعبوية، بل ومساجد شعبوية لا تدخلها إلا فئاتٍ معينة!
هكذا تفيق أوروبا من حمَّى الشعبوية، ونحن غارقون فيها، تنتبه للمتطرفين الذين يعبثون في نسيجها؛ فتنبذهم وتُحذِّر منهم ونحن نُحفِّزهم ونُروِّج لهم.
المخيف والمرعب أن الأمر يجري عندهم في معظم الأحوال لأغراضٍ سياسية تزيد وتنقص، دون إقصاء أو إلغاء، لكن الأمر يجري عندنا فيبدأ بالاستبعاد من السياسة ثم من الحياة..!