الخسائر البشرية للحرب في سوريا وعليها، كما لخصها «المرصد السوري لحقوق الانسان»، مروّعة بذاتها … ليست مفاجئة، نعم … ولكن في كل مرة تقف أمام الحصيلة غير النهائية للأرواح التي قضت واحترقت في أتون هذه المذبحة، تصاب بالصدمة والذهول، لكأنك تقرأها للمرة الأولى … ونقول إنها مروّعة بذاتها، ومن دون حاجة للمبالغات التي درج عليها خطاب بعض المعارضين ورعاتهم في الإقليم.
ونعود لتقرير «المرصد» لسببين: الأول، لأنه يوفر لنا معلومات تفصيلية حول توزع الخسائر البشرية على الفئات السكانية والمحاور المتصارعة… والثاني، لأنه يصدر عن جهة سورية معارضة، وليست حكومية متهمة – دائما – بالكذب وتلفيق المعطيات وإخفائها، مع أن هذه “التهمة” تنطبق على المعارضة، مثلما تنطبق على النظام، وربما بصورة أكبر … وسنأخذ الأرقام “على علّتها” فليست لدينا مصادر خاصة أو مرجعيات موثوقة يمكن الالتجاء إليها في فحص الرقم والتحقق من دقته.
في الأرقام المنشورة على موقع «المرصد» جاء أن 321 ألفاً من السوريين قد سقطوا ضحية الحرب الجائرة على الشعب السوري (يضيف الموقع رقماً تقديرياً لضحايا لم يتم توثيق وفيّاتهم من قبله وقدرهم بـ 85 ألفاً) … من بين هؤلاء هناك 96 ألف مدني، يشكلون ما نسبته 30 بالمائة من إجمالي الضحايا، وهي نسبة عالية من دون شك، سيما أن خلف كل رقم من هذه الأرقام، قصة حياة وعائلة منكوبة وأحلام متكسرة … لكن تعليقي هنا، ينصب بالأساس على «منطق» أو بالأحرى «لا منطق» الحروب الأهلية التي عرفنا عنها وعشنا بعضها وقرأنا عن بعضها الآخر، حيث في الغالب الأعم، تكون نسبة الضحايا من المدنيين أضعاف نسبتهم من العسكريين … هنا يُطرح السؤال حول طبيعة ما يجري في سوريا، وهل هو حرب أهلية موصوفة، أم «صراع مسلح» يتداخل فيه المحلي بالإقليمي بالدولي، النظام يتحدث عن «مؤامرة» و«حرب على سوريا»، والمعارضة تتحدث عن «ثورة شعبية»، ما الذي يعنيه هذا الرقم، وأية رواية يدعم؟ وهل ثمة رواية ثالثة بين روايتي النظام والمعارضة على حد سواء؟
الملاحظة الثانية، أن أرقام التقرير تتحدث عن مقتل 61 ألف جندي من قوات النظام، وإذا أضفنا إليهم أعداد القتلى من “القوات الرديفة والحليفة” وفقاً للتعريف السوري الرسمي لهؤلاء، أو الميليشيات الطائفية وفقاً لتعريف المعارضة، والبالغ قربة 54 ألف، من بينهم 1400 لحزب الله وحوالي 7 آلاف من الميليشيات الأخرى، يصبح مجموع الخسائر البشرية في صفوف قوات النظام وحلفائه، 115 ألف مسلح وعسكري، وهذه تزيد عن ضعف الخسائر في صفوف مسلحي المعارضة والمليشيات الجهادية والمنشقين عن الجيش السوري، والتي يبلغ مجموعها حسب «المرصد»، ما يقارب الـ 55 ألف ضحية … مرة أخرى، ووفقاً لتجارب الحروب الأخرى، الأهلية منها والعابرة للحدود، فإن الأرقام المذكورة تطرح سؤالاً حول «خطاب المظلومية» الذي هيمن على لغة المعارضة، التي تواجه جيشاً مدججاً بالسلاح والكراهية، وحلفاء أكثر سخاء في تدعميه وتصليب عوده، فحين تكون خسائر الجيش النظامي أكبر من خسائر مليشيات مسلحة بأسلحة بدائية وفردية، فتلكم أحجية بحاجة إلى تفكيك، وربما تعطي أرقام «المرصد المعارض» صدقية أكبر لرواية النظام عن رواية المعارضة، والمؤكد أنها تدحض مزاعم بعض الرعاة الإقليميين، الذين لا يقيمون وزناً للأرقام، فلا يكتفون بمضاعفتها مرات ومرات، بل ويتهمون جهة واحدة بارتكاب كل هذا القدر المروّع من عمليات القتل.
يتحدث «المرصد» عن مليوني جريح ومعاق، لا يفصل في توزيعاتهم، كما أنه يتحدث عن 12 مليون لاجئ ونازح من دون تفصيل أوسع … لا نعرف شيئاً عن الرقم الأول، بيد أن الرقم الثاني، موزع وفقاً لما تقول المصادر المختلفة، إلى جزأين، الأول، ويخص اللاجئين حيث يقدر عددهم بخمسة ملايين لاجئ، يتوزعون أساساً على تركيا ولبنان والأردن، وبقية دول المنافي والمهاجرين، أما الملايين السبعة المتبقية، فهم نازحون داخل وطنهم سوريا.
ثمة جدل كبير حول أسباب اللجوء السوري ومحركاته، ومن هي القوى المتسببة فيه، أو في الجزء الرئيس منه، وأكاد أجزم بأن الجميع شركاء في مقارفة هذه الجريمة، وإن بأقدار متفاوتة … لكن سؤال منطقياً يراود الباحث وهو يتأمل في الرقم الخاص بأعداد النازحين داخل وطنهم … أين يتجه هؤلاء، وممن يهربون وإلى من يلتجئون؟
نحن نعرف أن مدناً سوريا، ذات أغلبيات مختلفة من المكونات السورية الاجتماعية، ارتفعت أعداد ساكنيها بمعدلات مهولة خلال السنوات الست موضوع التقرير… رأينا مئات ألوف الحلبيين في الساحل، وفي مدن وبلدات ذات غالبية مسيحية أو علوية، ورأينا أمراً مشابهاً في دمشق وفي غيرها من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام … أكاد أجزم مرة أخرى، أن الغالبية الساحقة من النازحين فروا من مناطق سيطرة الجماعات الجهادية والمعارضة، إلى مناطق سيطرة النظام، بل ويمكن القول أن عمليات تفريغ واسعة قد جرت في هذه المناطق، جراء السيطرة المليشيوية عليها.
تقول المعارضة، أنهم يهربون من هذه المناطق خوفاً من الاستهداف بالبراميل المتفجرة والغارات الجوية والصاروخية، وتقول الحكومة السورية، أنهم يلتجئون إلى حضن الدولة، هرباً من «تشدد وإرهاب» الجماعات الجهادية، ومن سلطة أمراء الحرب وتجار الموت في المناطق الخاضعة لجماعات معارضة … الرقم لمن يفكر بعقل بارد حول واقع المعارضة، وأشكال ممارستها “الحكم” في مناطقها، وبعضها خاضع لسيطرتها منذ بداية الأزمة تقريباً، يعطي الانطباع بفشل الأخيرة، وربما يفسر توق السوريين لاستئناف حياتهم السابقة، واسترداد أمنهم واستقرارهم وأعمالهم.
إن صحت التقديرات بشأن النازحين، فلماذا لا تصح بشأن اللاجئين كذلك، والأردن كدولة مضيفة للاجئين، وكذا لبنان، ثمة نسبة من اللاجئين الذين قصدوا البلدين، مدفوعين بمحركات اقتصادية أساساً، ناجمة عن ضيق الحال قبل الأزمة وبالأخص بعدها، وجراء الوعود البرّاقة التي أطلقها المجتمع الدولي للاجئين السوريين بحياة أفضل في المنافي، قبل أن ينقلب ملف اللجوء، من أداة سياسية ضد النظام، إلى عبء كبير على من استخدمها ولوّح بها وراهن عليها في إضعاف النظام، توطئة لأسقاطه.قلنا مراراً وتكراراً، قبل الأزمة وفي سياقها، وسنظل نقول بعدها، أن الشعب السوري طالما استحق حكماً أفضل من ذاك الذي رزح تحت ظلاله الكئيبة لما يقرب من النصف قرن، وعدنا لنقول في سياق أزمة السنوات الست، التي ستدخل اليوم عامها السابق، أن الشعب السوري، استحق ويستحق معارضة أفضل من هذه، التي قامرت بمستقبله وزجته في أتون مواجهة لصالح عواصم وأجندات “كونية” استخبارية كانت أم جهادية، وارتضت أن تتوزع ولاءاتها على مصادر الدعم والتمويل وأجهزة الاستخبارات في العديد من الدول.