أهداني الناشر المعروف المهندس إبراهيم المعلم واحدًا من الإصدارات الجديدة لدار الشروق وهو كتاب صغير الحجم عظيم الفائدة وعنوانه ( أوروبا.. تاريخ وجيز) لمؤلفه (جون هيرست) مع ترجمة وتقديم الدكتور محمود محيي الدين. أمّا المؤلف فهو كاتب ومؤرخ ولد في (أستراليا) وعمل أستاذًا في جامعة (ملبورن) بعد حصوله على درجة الدكتوراه كما أصبح زميلًا للأكاديمية الأسترالية للعلوم الاجتماعية، وبجانب نشاطه الأكاديمي كان منخرطًا في الحياة العامة كمستشار لرئيس الوزراء الأسترالي، وقد عرف كمؤرخ للتاريخ الاجتماعي والسياسي وحاز شهرة واسعة في هذا النطاق، أمّا المترجم فهو معروف جيداً للقارئ المصري فقد كان أستاذًا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة التي تخرّج فيها عام 1986 وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعتين عريقتين في بريطانيا وشغل العديد من المناصب أهمها تولّيه وزارة الاستثمار في الفترة من 2004-2010 حتى أصبح حاليًا النائب الأول لمدير البنك الدولي كأول مصري يشغل هذا المنصب.
ويتحدث الدكتور محمود محيي الدين عن ملابسات ترجمته لهذا الكتاب الفريد قائلًا (في إحدى مرات سفري عبر مطار (فرانكفورت) بألمانيا وجدت هذا الكتاب على رفوف إحدى مكتبات المطار، وكلما مررت بهذه المكتبة في زيارات أخرى وجدت نسخًا أكثر مطروحة منه ثم ظهر الكتاب بعد ذلك في قائمة أفضل الكتب وترجم إلى تسع لغات، وقد قرأت الكتاب في رحلة عودتي إلى (واشنطن) مقر البنك الدولي الذي أعمل به فوجدت أن الكتاب يتناول بأسلوب شائق التاريخ الأوروبي بعصوره المتتابعة) ومحمود محيي الدين هو مثقف مصري رفيع الشأن قبل أن يكون أستاذًا مرموقًا في الاقتصاد، ولازلت أتذكر أن وزارة الاستثمار على عهده كانت تصدر كل شهر كتيبًا رائعًا للتعريف بإنجازات شخصية مصرية في تاريخنا الحديث، وأتذكر أيضًا أنه هو الذي قدم الدكتورة سحر نصر للجامعة البريطانية لتعمل مدرّسة لعلم الاقتصاد إلى جانب عملها في البنك الدولي في القاهرة، ولقد كنت وقتها رئيسًا لتلك الجامعة.
نعود لموضوع هذا الكتاب لنطرح من جوهره أفكار المؤلف إلى جانب إضافات المترجم وإسهاماته فنذكر ما يلي:
* أولاً: يقول المؤلف في مستهل الفصل الأول (تنفرد الحضارة الأوروبية بأنها الوحيدة بين الحضارات التي فرضت نفسها على سائر العالم. وكان هذا بالغزو، والاستيطان، والإمكانيات الاقتصادية، وقوة الأفكار؛ فقد ملكت هذه الحضارة ما كان الآخرون في حاجة إليه. وتستخدم اليوم كل دولة على الأرض اكتشافات العلم والتكنولوجيا التي تدفقت من الحضارة الأوروبية. فالعلم كان اختراعاً أوروبياً.
* ثانياً: تكوّنت الحضارة الأوروبية في بدايتها من ثلاثة عناصر:
1- ثقافة الإغريق والرومان
2- المسيحية، وهي فرع متفرد من ديانة اليهود.
3- ثقافة المحاربين الجرمانيين الذين أغاروا على الإمبراطورية الرومانية وداهموا أراضيها.
وكانت الحضارة الأوروبية مزيجًا من هذه العناصر.
* ثالثاً: إذا أمعنّا النظر في فلسفتنا، وفنوننا، وآدابنا، والعلوم، والرياضة، والطب وطريقة تفكيرنا في السياسة، تجدنا نرجع في كل هذه الأمور الفكرية إلى اليونان القديمة. ولم تكن اليونان في أيامها العظمى دولة واحدة، ولكنها تكونت من مجموعة من الدول الصغيرة، أو مجموعة من المدن، وفي هذه المدن الصغيرة بزغت الديمقراطيات في صورتها الأولى، لم تكن ديمقراطيات نيابية، فلا توجد انتخابات لأعضاء في برلمان. الذكور من المواطنين قد يجتمعون، في مكان من اختيارهم، فيتحدثون عن الشؤون العامة، ويصوّتون على القوانين والسياسات.
* رابعاً: بعد أن يقارن المؤلف في براعة بين ثقافة اليونان وحضارة الرومان يرى للرومان أفضلية في الحرب وتنظيم الإمبراطورية ودراسة القانون والأعمال الهندسية رغم اعتراف الرومان بأن اليونانيين القدامي كانوا أفضل منهم فنسخوا ما فعلوه واقتفوا آثارهم حتى أن النخبة الرومانية كانت تتحدث اليونانية واللاتينية.
* خامساً: يتطرق الكاتب إلى العقيدة الدينية فيقول (كان المسيح عليه السلام، مؤسس المسيحية، يهودياً، وكذلك كان أتباعه الُأوَل. وعندما بدأ عيسى في نشر تعاليمه، لم يكن اليهود مسيطرين على بلدتهم، كانت فلسطين إقليماً نائياً للإمبراطورية الرومانية. وتطلّع بعض أتباعه إلى أن يقودهم في ثورة ضد روما. وأراد مناوئوه أن يدفعوه إلى التصريح بهذا التوجّه، فسألوه هل علينا أن ندفع الضرائب لروما؟ فطلب منهم أن يعطوه قطعة من العملة المتداولة، ففعلوا، وسألهم صورة من هذه على العملة؟ فأجابوا أنها صورة قيصر روما، فقال عليه السلام: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)
* سادساً: يتطرق المؤلف إلى فصل مثير فيقول ( أهم اللغات الرومانسية في أوروبا هي الفرنسية والإيطالية والإسبانية. أنظر مثلًا إلى كلمة حصان في اللغات الثلاث: في الفرنسية (تشيفال)، وفي الأسبانية (تشابالو)، وفي الإيطالية (تشافالو)، لا يوجد هنا إشارة للكلمة اللاتينية للحصان وهي (إيكوس). في الإنجليزية (هورس) التي تنحدر من الألمانية. الكلمات اللاتينية في اللغة الإنجليزية هي عادة كلمات أكثر رسمية، في اللاتينية كانت هناك كلمة عامية للحصان تسابالوس ومنها هذا الشكل للكلمة أتت الكلمات الرومانسية لكلمة حصان في اللغات الفرنسية والإيطالية والأسبانية.
سابعاً: يتجه المؤلف في براعة إلى تحليل الشخصية الأوروبية ومكوناتها المختلفة في إطار ثقافي مشترك تحت مظلة الحضارة الغربية المسيحية ويعبر بوضوح عن شخصية أوروبا الحديثة حتى بلغت ما وصلت إليه.