فتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمس النار على ألمانيا، واتهم حكومتها بدعم الإرهاب، وإيواء إرهابيين، وقال إن الصحافي الألماني المعتقل في تركيا دينيز يوجل مراسل صحيفة «دي فيليت» «إرهابي» ويعمل جاسوسا لألمانيا في تركيا.
العلاقات التركية الألمانية لم تكن جيدة في العامين الماضيين، ودخلت مرحلة من التأزم بعد اتهامات أوروبية للرئيس أردوغان باستخدام قضية اللاجئين السوريين كورقة «ابتزاز» ضد أوروبا للحصول على امتيازات اقتصادية وسياسية، خاصة بعد توقيع حكومته اتفاقا مع الاتحاد الأوروبي ينص على حصول تركيا على ستة مليارات دولار، والسماح لمواطنيها بدخول الدول الأوروبية بدون تأشيرات دخول، مقابل إغلاق تركيا الحدود في وجه المهاجرين الذين يستخدمون أراضيها لركوب البحر نحو البر الأوروبي.
في اليومين الماضيين تصاعدت وتيرة التوتر بعد إلغاء الحكومة الألمانية ثلاثة تجمعات لأنصار حزب العدالة والتنمية، كانت مقررة دعما للتعديلات الدستورية التي يريد الرئيس أردوغان إدخالها، وبما يعطيه صلاحيات مطلقة لتغيير النظام وتحويله إلى جمهوري، يلغي النظام البرلماني الحالي، ورئاسة الوزراء.
***
الجالية التركية في ألمانيا ضخمة، وتقدرها إحصاءات شبه رسمية بحوالي 3.3 مليون، يحمل اغلبهم الجنسية الألمانية إلى جانب الجنسية التركية الأصلية، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وألمانيا حوالي 35 مليار دولار سنويا، أي أن ألمانيا هي الحليف التجاري الأكبر لتركيا في أوروبا، وربما العالم بأسره أيضا.
بكر بوسداغ، وزير العدل التركي، الذي كان من المفترض أن يكون احد ابرز المتحدثين في التجمعات الملغاة، إلى جانب وزير الاقتصاد، اتهم ألمانيا باختراق حقوق الإنسان والضرب بها عرض الحائط، واصفا إلغاء فعالية، كان سيتحدث فيها للترويج للتعديلات الدستورية، بأنه قرار «فاشي» ينتهك القيم الديمقراطية الأوروبية.
السلطات الألمانية قالت أنها ألغت هذه التجمعات لأسباب أمنية، وخشية حدوث صدامات بين أنصار الرئيس أردوغان ومعارضيه، إلى جانب وجود نسبة كبيرة من الأتراك من أصول كردية، ولكن الرئيس أردوغان متمسك باتهاماته، ويصعد من هجومه ضد ألمانيا، لأنه يشعر بأن أصوات الجالية التركية في استفتاء التعديلات الدستورية في 16 ابريل المقبل، ربما تكون مهمة جدا لترجيح كفة الفوز.
الصحافة الألمانية تعاطت مع اتهامات أردوغان ووزرائه لبلادهم بالفاشية، وانتهاك حقوق الإنسان بالتذكير بأن حكومته تعتقل حاليا 43 ألف مواطن في معتقلاتها دون محاكمات، وعلى أساس قوانين الطوارئ التي تطبقها منذ الانقلاب العسكري الذي وقع في شهر تموز (يوليو) الماضي، وجرى توجيه الاتهام إلى الداعية التركي فتح الله غولن بالوقوف خلفه، علاوة على فصل أكثر من 100 ألف قاض وأكاديمي وموظف عمومي من وظائفهم بتهمة التعاطف مع الانقلابيين.
هذه الردود الصحافية الألمانية تنطوي على الكثير من الصحة، فسجل تركيا المتعلق بحقوق الإنسان غير وردي على الإطلاق، حيث تم اعتقال أكثر من مئة صحافي، وإغلاق عدة صحف ومجلات ومحطات تلفزة، انتقدت الإجراءات القمعية التركية للحريات، وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير.
حزب العدالة والتنمية حظي باحترام الغرب ودعمه لأنه احترم هذه الحريات، وقدم نموذجا في الديمقراطية يستند على التنمية والتسامح والتعايش والإسلام المعتدل، والحفاظ على علمانية الدولة، ولكن بعد أن بدأت هذه الأسس والدعائم تنهار الواحدة تلو الأخرى، انفض الكثيرون من حول الرئيس أردوغان، زعيم الحزب، بما في ذلك اقرب المقربين منه، وشركاؤه في الحزب، مثل عبدالله غول، الرئيس السابق الذي يحظى بشعبية كبيرة، أبرزها حوالي تسعة ملايين متابع على «التويتر»، ومثل الدكتور احمد داوود أوغلو، منظر الحزب وصاحب نظرية «زيرو مشاكل مع الجيران» وقد عارض الاثنان التعديلات الدستورية هذه، وإعادة تركيا إلى عهد السلاطين العثمانيين.
***
تركيا باتت محاطة حاليا بحزام من الأعداء، فعلاقاتها مع إيران واليونان متوترة، وتخوض حربا في سورية، وتحتل جزءا من أراضيها تحت غطاء إقامة منطقة آمنة، وها هي تدخل أزمة مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي عموما، وربما لم يبق لها أي علاقات جيدة إلا مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
خطورة هذه التوترات تكمن في احتمالية انعكاساتها السلبية على الداخل التركي، والوحدة الديمغرافية الوطنية على وجه الخصوص، وخسارة دولة مثل ألمانيا في وقت تقف فيه الليرة التركية على حافة الانهيار (الدولار يساوي حاليا 3.8 ليرة)، وتتراجع معدلات التنمية إلى اقل من النصف (تبلغ 36 مليار دولار سنويا)، هذه الخسارة تعني المزيد من الصعوبات الاقتصادية.
اتهام ألمانيا بالفاشية تهمة خطيرة تعكس حالة من التخبط وانعدام الرؤية، فألمانيا ليس فقط شريكا تجاريا مهما لتركيا، وإنما تعتبر أيضا شريكا في حلف الناتو أيضا.
الوضع في تركيا غير مريح على الإطلاق، ويتسم بالتوتر ويوحي بالمزيد من عدم الاستقرار، وهذا رأي الغالبية الساحقة من الخبراء المستقلين داخل البلاد وخارجها.
نحن في انتظار اعتذار تركي جديد لألمانيا.. وتراجع عن كل الاتهامات، تماما مثلما جرت العادة في حالات مماثلة، وكان آخرها الاعتذار لإيران والعراق، وقبلهما روسيا.. ولكن الضرر قد وقع في جميع الأحوال.. والأيام بيننا.